نختم، اليوم، بما توقفنا عنده في مقالة سبقت عن استحالة حشر الأزمنة الحديثة، في الثوب الضيّق للغة الإسلام القروسطي السياسية، وما ينجم عن محاولة كهذه من تمزقات في الروح والجسد. ولا نحتاج إلى أكثر مما مزّقت “خلافة الدواعش”، مثلاً، للتدليل على تجلياتها الوحشية والكارثية.
والواقع أن ما ندعوها بالتجليات الوحشية والكارثية، بالذات، ليست شيئاً سيئاً، في أذهان هؤلاء، بل هي شرط مُسبق لشن الحرب على، وتدمير، معنى ومبنى دولة الأزمنة الحديثة. لذا، لم يكن وجود مرافعة، ذاع ذكرها، بعنوان “إدارة التوحّش“، لـ”أبي بكر الناجي” (اسم حركي، طبعاً)، من قبيل المبالغة، أو “التطرّف”.
ومن الأجدى، بالتأكيد، النظر إلى هذه المرافعة كخارطة طريق أيديولوجية وثيقة الصلة بالحقل الرمزي للمقدس في الاقتصاد السياسي لمجتمعات ما قبل الدولة الحديثة، التي لم تكن، هي ولا حقولها الرمزية، من قماشة واحدة، كان بينها الزراعي، والحضري، والقبلي الصحراوي. وقد نبت “الناجي”، إذا ما أعدنا مفرداته، وحقلها الدلالي، إلى مصادر أقدم، في الدفيئة الأيديولوجية للأخير.
يعرف المشتغلون بالتاريخ أن “التاريخ الكبير” يضم علاوة على ما فيه من تلفيق، ما لا يحصى من “التواريخ الصغيرة”، وأن التمرّد عليه، وعودة “التواريخ الصغيرة” إلى المتن، من خصائص فلسفة التاريخ في أيامنا من ناحية، وبرهان أن الحاضر هو مفتاح الماضي وسرّه من ناحية ثانية. بيد أن هذا لا يتجلى، ولا يصير مفهوماً، كما ينبغي، دون الاستعانة بالأدب. لذا، أجد ما يبرر تحويل رواية إلى وسيلة إيضاح للعثور على سرديات حبيسة الهامش. الرواية هي “حرب نهاية العالم“، لماريو فارغاس يوسا، الفائز بنوبل للآداب، والتي أدين لها بمقاربة أعتقد أن في وسعها قراءة وتحليل سرديات “التاريخ الكبير” لحركات دينية وسياسية، بطريقة غير تقليدية، أيضاً.
تقع أحداث الرواية في لحظة تاريخية تراوح ما بين قديم لم يمت، وجديد لم يولد بعد (بلغة “غرامشي”) في منطقة نائية من برازيل القرن التاسع عشر، حيث لا وجود للدولة، في قرى وبلدات يحكمها الإقطاع وقانون الغاب، وحيث يتناقل الناس أخبار تحوّلات تقع في مناطق بعيدة من نوع إلغاء “الياردة” واستخدام “المتر” كوحدة قياس جديدة، وإعلان “النظام الجمهوري”.
وفي هذه الأجواء، ظهر وعاش في الريف رجل نحيل غامض، لا يطلب شيئاً لنفسه، ينام في الحقول، والأكواخ المهجورة، ويقضي وقته في ترميم جدار كنسية تهدّم، أو تنظيف مقبرة القرية. صار مألوفاً، وصار من عادة الناس تقديم طعام له لم يطلبه، ودعوته إلى بيوت لا يقبل النوم فيها. ومع مرور الوقت، اكتشف متسوّلون، ومشردون، وعبيد هربوا من أسيادهم الإقطاعيين، واختبأوا في الريف، أن الرجل الغامض لا يشكو ندرة الطعام، ولا الجوع، فالتحق كل هؤلاء به، دون دعوة منه، وساعدوه في أعمال الترميم، والتنظيف، واقتسموا معه وفرة الطعام، بطبيعة الحال. وصاروا ينامون قربه في الحقول، والأكواخ المهجورة.
لم يكن الرجل الغامض كثير الكلام، ولكنه أفصح للمتحلقين حوله، في سويعات ما قبل النوم، عن خوفه من قرب نهاية العالم. وكان دليله على ما يقول إلغاء “الياردة”، وإعلان “الجمهورية”، ولم يكن لدى سامعيه موانع خاصة للارتياب في قرب نهاية العالم، ناهيك عن كراهية “المتر” و”الجمهورية”، فكلاهما نذير شؤم. لذا، لم يترددوا عندما دعاهم، ذات يوم، للإقامة معه في منطقة جبلية نائية، وانتظار نهاية العالم هناك. وهذا ما كان، رحلوا إلى منفاهم الجبلي، والتحق بهم المزيد من المتسولين، والهاربين من أسيادهم، وقطّاع الطرق المُفلسين.
زرعوا الخضروات، اكتشفوا مصادر للماء، بنوا الأكواخ من جذوع الأشجار، سرقوا بعض الماشية، وخصصوا للرجل الصالح، الذي طالبوه بالكف عن العمل، والتفرّغ للصلاة والتأمل، أفضل الأكواخ، وجلبوا له، أفضل ما لديهم من طعام، تفرّغت لخدمته خادمة سابقة، والتصق به أحدب قام بوظيفة الخادم والحارس والسكرتير والناطق الرسمي. وصارت هتافات من نوع “عاشت الياردة، يسقط المتر”، و”الجمهورية هي المسيح الدجّال”، بمثابة الغراء الأيديولوجي لمجتمع الكميونة الصغيرة.
المهم، أن الحكام في العاصمة، سمعوا عن تمرّد فلاّحين بقيادة رجل غامض، فجرّدوا حملة عسكرية، ولكن الجوع والمرض فتكا بجنودها قبل بلوغ الهدف، وعاد بعض الضباط بقصص مختلقة عن المقاومة العنيفة التي قضت على جنودهم. الرجل الغامض، ورجاله، لم يسمعوا عن الحملة العسكرية، طبعاً. وجرّدت الحكومة حملة عسكرية ثانية، وفي الوقت نفسه وصلت الفوضويين من أتباع سان سيمون، في باريس، أخبار ثورة يقودها فلاّحون في كميونة في البرازيل، فجمعوا المال، واشتروا السلاح، وأرسلوا مندوباً لإيصال السلاح إلى الرفاق في الطليعة الفلاّحية المقاتلة.
وتشاء المفارقات التاريخية أن يهرب بعض الجنود، وأن يلتحق البعض الآخر بالرجل الغامض، وبالتالي هُزمت الحملة العسكرية فعلاً، على أيدي جنود محترفين، وقال الرجل الغامض، إن المسيح الدجال وراء الحملة العسكرية، كما كان وراء إلغاء الياردة، وإعلان الجمهورية، وأن نهاية العالم صارت أقرب من أي وقت مضى.
أخيراً، نجحت الحملة الثالثة، ودمّرت مدفعية الجيش الكميونة الصغيرة. وعندما اقتحم الجنود كوخ الرجل الغامض، لم يجدوا سوى خادمة تبكي، والأحدب، الذي سألوه: أين سيدك؟ فرفع إصبعه إلى أعلى قائلاً، وشبح ابتسامة على شفتيه: “صعد إلى السماء”. لا يشكو التاريخ ندرة المتوحّدين الغامضين، ومثقفين من فصيلة الأحدب، ولا حماسة رفاق فوضيين، ومغفلين مفيدين، بقدر ما تُثقل كاهله سرديات أصلية ساذجة، جرى تلفيقها وصياغتها من جانب هؤلاء وأمثالهم كتاريخ كبير.
khaderhas1@hotmail.com