لعل أحد أكثر الملفات العاطفية الموروثة من الحروب الباسيفيكية هو ما يسمى ملف « نساء المتعة » (الصورة أعلاه) وملف « العمال السخرة » اللذين ترفعهما كوريا الجنوبية في وجه اليابان، مطالبة طوكيو بالإعتذار ودفع تعويضات مالية ضخمة لمواطنيها الذين انتهكت حقوقهن وكرامتهن من نساء وعمال خلال حقبة الإحتلال الياباني لشبه الجزيرة الكورية (من 1910 إلى 1945).
وهو ما ألقى منذ عام 2018 بظلال قاتمة على علاقات الدولتين المفترض أنهما حليفتان ووضعهما في مسار تصادمي، فتأثرت روابطهما التجارية والأمنية بدليل قيام طوكيو بإزالة كوريا الجنوبية من ”القائمة البيضاء“ لشركائها التجاريين المفضلين، وتهديد سيئول بالانسحاب من اتفاقية الأمن العام ومشاركة المعلومات الاستخباراتية مع اليابان ”GSOMIA“.
وتبدو الولايات المتحدة الأمريكية أكبر المتضررين من هذا النزاع بسبب حاجتها إلى أن يسود التعاون والتفاهم بين سيئول وطوكيو من أجل هدفها الأسمى في هذه الفترة وهو مواجهة الصعود السياسي والاقتصادي والعسكري للصين من ناحية، ومن ناحية أخرى لمواجهة تهديدات وألاعيب كوريا الشمالية في المنطقة. ولهذا جندت إدارة الرئيس جو بايدن دبلوماسيتها لتقريب وجهات النظر بين حليفتيها اليابانية والكورية، لكن دون نجاح يذكر بسبب إلقاء كل من اليابان وكوريا الجنوبية اللوم على بعضهما البعض فيما خص تدهور العلاقات من بعد نحو نصف قرن من التعاون.
فسيئول مثلا تقول أن اليابانيين هم من يعرقلون أي تسوية حول الملف التاريخي المذكور بانتظار وصول رئيس كوري جديد إلى السلطة في العام القادم. بينما تفند طوكيو هذا الزعم وتقول أن الكوريين يتجاهلون التعويضات التي دفعتها سابقا ويصرون على إعادة فتح ملفات أغلقت بموجب اتفاق تم التوصل إليه في عام 2015 لتسوية قضية الاعتذار وتعويض النساء الكوريات. والمعروف في هذا السياق أن اليابان قدمت اعتذارا صريحا على لسان زعيمها الأسبق « شينزو آبي » الذي أعرب عن ندم بلاده لإهانة شرف وكرامة أعداد كبيرة من الكوريات، وتعهد بتضميد الجراح النفسية من خلال تعويضات مالية، وأنشأت وموّلت صندوقا لتقديم تعويضات قبِلَها ثلثا الضحايا الناجين، بينما فضل الثلث المتبقي الرفض والاستمرار في رفع قضايا ضد طوكيو في المحاكم الكورية الجنوبية.
والمعروف أيضا أن الحكومة الكورية السابقة انتصرت لهذا الثلث وألغت من جانب واحد اتفاقية 2015 وقامت باغلاق الصندوق، ما أغضب الحكومة اليابانية ودفعها للقول أن نظيرتها الكورية ليست جديرة بالشراكة والثقة.
يمكن القول ان الضغط الشعبي في كلا البلدين، والذي وقفت خلفه وسائل الإعلام المحافظة، جعل ساسة البلدين يتصلبون في مواقفهم لأسباب إنتخابية، وهو ما تسبب في بقاء الأزمة على حالها.
انفراج بسيط تحقق في إبريل المنصرم، حينما رفضت محكمة سيئول دعوة رفعتها مجموعة من النساء ضد اليابان، حيث قال القاضي أن اتفاقية 2015 كانت صالحة لتسوية مشكلتهن، مع اقراره بأنها لم تكن مرضية تماما قياسا بالألم الذي عانينه في الماضي. وتناقض هذا الحكم مع حكم أصدرته محكمة ذات مستوى مماثل في يناير الماضي قضى بأن على اليابان أن تمنح المزيد من التعويضات. توقع المراقبون أن يؤدي الحكم القضائي الجديد، إلى فتح الباب أمام مفاوضات دبلوماسية بين البلدين بدعم أمريكي.
غير أن رد الفعل الياباني كان حذرا آنذاك بسبب تجاذبات وصراعات داخل الحزب الديمقراطي الحر الحاكم في طوكيو استعدادا للإنتخابات العامة. خصوصا مع ميل المقترعين لإتخاذ مواقف متشددة. هذا ناهيك عن وجود عقبات أخرى حالت دون ترطيب الأجواء وفي مقدمتها قيام الكوريين بالإستيلاء على أصول لشركتي “ميتسوبيشي للصناعات الثقيلة” و“نيبون للحديد والصلب” اليابانيتين، وبيعها لسداد تعويضات لأمرأتين وأربعة رجال أجبروا على العمل القسري زمن الحرب والاحتلال، وذلك تنفيذا لحكمين أصدرتهما المحاكم الكورية في أكتوبر 2018 وسبتمبر 2021 وهما حكمان رفضتهما طوكيو واعتبرتهما خرقا لمعاهدة سنة 1965 الثنائية التي ترتبت عليها إقامة العلاقات الدبلوماسية والاتفاقية الملحقة حول تسوية المشكلات الخاصة بالملكية والدعاوى والتعاون الاقتصادي واستفادة كوريا الجنوبية من القروض اليابانية. لكن معاهدة 1965 في نظر كوريين جنوبيين كثر، ولا سيما اليساريين منهم، تسوية غير مقبولة لأنها ــ حسب زعمهم ــ أبرمت بشكل غير ديمقراطي من قبل نظام زعيمهم الأسبق “بارك شونغ هي” العسكري الإستبدادي، الذي “تنازل عن العدالة التاريخية وحقوق مواطنيه في مقابل الحصول على المساعدات الاقتصادية اليابانية“، كما وأنها أبرمت، طبقا لهم، في وقت كانت فيه بلادهم في وضع إقتصادي صعب وتقف على الخطوط الأمامية للحرب الباردة، فلم يكن أمامها سوى خيار قبول التعاون الأمني والاقتصادي مع اليابانيين وتأجيل الحديث حول تسوية عادلة لأخطاء الماضي.
وهنا يتناسى الكوريون حقيقتين. أولاهما، أن أحد المباديء الأساسية في القانون الدولي هو أن الإتفاقيات بين الدول لا تسقط بتغير أنظمتها السياسية. وثانيتهما، هي أن الإطار العام لمعاهدة 1965 هو معاهدة سان فرانسيسكو للسلام، والتي حددت شروط التسوية السلمية الشاملة بين اليابان ومعظم المجتمع الدولي.
الجديد على صعيد العلاقات المتوترة بين البلدين تمثل في مكاملة هاتفية في منتصف أكتوبر الفائت بين الزعيم الياباني الجديد « فوميو كيشيدا » ونظيره الكوري « مون جيه إن ». في هذه المكالمة، وهي الأولى بين الجانبين منذ أكثر من ثلاث سنوات، طالب كيشيدا بضرورة تعميق العلاقات الثنائية وروابطهما مع واشنطن لمواجهة التهديدات الأمنية الخطيرة في المنطقة، فيما دعا الرئيس الكوري الجنوبي إلى حل قضايا الماضي بطريقة دبلوماسية وبحيث لا تؤثر على التعاون الأمني.
ومثل هذه الدعوات، رغم أنها إنشائية وفضفاضة ولم تحسم الأمور الخلافية، إلا أنها خطوة ودية توحي باستعداد القيادة اليابانية الجديدة لطي صفحة الخلاف من أجل التركيز على قضايا مشتركة أكثر أهمية.
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين