في مثل هذه الأيام، قبل ثماني سنوات، صدحت حناجر قوية وعفيّة بهتاف ارتعدت من هوله فرائص، وخفقت له قلوب: “الشعب يريد إسقاط النظام“. وكما يعرف القاصي والداني، لم يبق من هذا كله سوى الرماد، والحرب على الإسم والرواية. وطالما أن “التاريخ“ يكتبه المنتصرون، يُوصف الحدث الجليل والنبيل بتسميات سلبية من نوع: “ما يُسمى بالربيع العربي“، و“الربيع الأسود“، و“يُحلَّل“ بوصفه “مؤامرة“ لإسقاط دول وجيوش. وهذه هي رواية « الثورة المضادة ».
والواقع أن عدداً لا يحصى من الناس، وحتى من الذين خرجوا إلى الميادين، قبل ثماني سنوات، لا يجد غضاضة في تبنّي رواية المنتصرين، التي يُعاد تصنيعها وترويجها، يومياً، في وسائل الإعلام، وقد جنّدوا كل ما في جعبتهم من وسائل الرقابة والقمع المادية والمعنوية، علاوة على الاستشهاد بواقع الرماد نفسه، والاستعانة به، للتدليل على صدقية الرواية.
ويحضر، في هذا السياق، ما ذكره المستشرق الهولندي نيكولاس فان دام، في “تدمير شعب: الحرب الأهلية في سورية“ الصادر قبل عامين. فلو عرف السوريون، كما يقول، أن تمردهم على النظام سيؤدي إلى كل هذا الخراب لما فعلوا. ولكنه يسأل: هل كانت الثورة على النظام حتمية؟ ويجيب بنعم، كانت مُبررة وحتمية.
إنتاج “فاخر” للربيع العربي من.. صنعاء!
وهذا الكلام، الذي لا يتبنى رواية الثورة المضادة، بل ويُسهم في نقضها، يصدق على كل مكان آخر هبت عليه موجة الربيع العربي. فلو عرف كثيرون النتيجة لما أقدموا على الفعل. وبهذا المعنى، لا يجوز التساؤل عن مبررات وحتمية ثورات الربيع العربي، بل التفكير في أسباب فشلها، وما نجم عن الفشل من كوارث ماثلة للعيان.
وفي هذا الصدد، نعثر في رواية “المهزومين“ ـ التي لم تنجُ حتى في الأيام الأولى لموجة الربيع العربي من تساؤلات طالت الاسم والماهية: ثورة أم انتفاضة؟ ـ على أسباب من نوع: غياب التنظيم، وخارطة الطريق الثورية، والقيادة المُوحّدة. وتتردد، في جنبات هذا الكلام، أصداء ثورة البلاشفة، وما تركت أدبيات قرن من أيديولوجيا اليسار في العالم العربي، من أثر دائم على اللغة والمخيال السياسيين.
وفي السياق نفسه، وما زلنا في رواية “المهزومين“، تُفسّر الهزيمة بنجاح القوى الأكثر تنظيماً، وهنا يحضر مثال “الإخوان المسلمين”، في ركوب موجتها، وفي حقيقة أن “الدولة العميقة“ في البلدان التي ضربتها موجة الربيع قررت التضحية، كما حدث في مصر وتونس، برأس النظام لإنقاذ النظام نفسه. أو انقسمت على نفسها، كما حدث في ليبيا واليمن، فأشعلت حرباً أهلية. أو كان لديها ما يكفي من الوقت لتستخلص العبرة من الدروس المصرية والتونسية والليبية، فخاضت حرب وجود، دون التضحية برأس النظام، حتى وإن كان الثمن الحرب الأهلية، كما حدث في سورية.
ربما تكون “يا حيف” لـ”سميح شقير” أجمل أغنية في الثورة السورية
علاوة على ما تقدّم، وفي الرواية نفسها، تمنح بعض التفسيرات التدخلات الإقليمية والدولية ثقلاً إضافياً. فقد تضافرت التدخلات الأميركية، والخليجية، والتركية، والإيرانية، ويُقال أحياناً، الإسرائيلية، مع مصالح قوى فاعلة داخل هذا النظام أو ذاك وخارجه، بعدما أفاقت من صدمة الأيام الأولى، للتحكم في دفة الأحداث، وإلحاق الهزيمة بجماهير تمرّدت في الميادين بلا تنظيم، ولا قيادة، ولا خارطة ثورية للطريق.
ولا ينبغي، على أي حال، إسقاط الأسباب المُتداولة في رواية “المهزومين“ من الحسبان. فلا يمكن تفسير حدث بحجم الربيع العربي، ونتائجه الماثلة للعيان، استناداً إلى عامل واحد، ولا يمكن، أيضاً، التغاضي عن الخصوصيات الاجتماعية والسياسية التي تُميز بلداً عن آخر، وتجربة عن غيرها. فكل حالة من حالات الربيع العربي، وإن توحّدت في سمات عامة، تظل فريدة.
ومن موقع المقيم في معسكر “المهزومين“، ودون التقليل من أهمية ما يُتداول فيه من أفكار أعتقد أن ثمة فرضيات إضافية تصلح مادة للتفكير. وبقدر ما يتعلّق الأمر بأشياء من نوع التنظيم، وخارطة الطريق، والقيادة الموّحدة، فإن الثورات لا تكرر نفسها، كانت ثورة البلاشفة فريدة، وكذلك ثورة الإيرانيين على الشاه، فريدة، وقبل هذه وتلك الثورة الفرنسية كانت، أيضاً، فريدة وغير قابلة للتكرار.
هذا لا يعني أن عصر الثورات الكبرى قد انتهى، بل يعني أن التطور التقني معطوفاً على “ليفاياثان” الدولة الحديثة، وتداخل المحلي بالإقليمي، وهذا وذاك بالدولي، وما طرأ على دورة السوق والإنتاج، وعلى الثقافة السياسية، وبنية الطبقات الاجتماعية من تطوّرات، كلها أشياء تحرّض على القول إن ثورات القرن الواحد والعشرين ستكون فريدة، أيضاً. ومن ضرورات التواضع القول إننا لا نعرف الكثير عنها. وهذا، في الواقع، أحد المصادر الفكرية العميقة لأزمة اليسار.
حمد بن جاسم و”الشيخ” معاذ الخطيب: “دفتر الشيكات” يصنع الثورات!
وثمة، أيضاً، فرضية تستدعي التفكير. أعني أن قرابة قرن من الحروب الأهلية الباردة والساخنة، وهزائم الحروب الخارجية، والدكتاتورية السافرة، وانهيار مشاريع التحديث والتنوير والتنمية،ـ والصهر الاجتماعي في دولة/أمة، وتحوّل النخب الحاكمة إلى ما يشبه المافيا، وانهيار الجمهورية كأيديولوجيا راديكالية، وإعادة إنتاج النموذج السلطاني العثماني المملوكي للدولة، قد أسهمت مجتمعة في خلق مجتمعات مريضة.
وما لم ننطلق من حقيقة المرض، وأن ثمة تشوّهات ثقافية واجتماعية وسياسية عميقة الجذور في بنية المجتمعات العربية، فلن نتمكن من تفسير الكثير مما نجم عن محاولات إجهاض موجة الربيع من نتائج كارثية.
لا يمكن لمؤامرة في الكون أن تُنجب هذا القدر من الحروب، والدواعش والسلفيات، والإخوانيات المحافظة والرجعية، والعنف، والنزعة الانتحارية والانتحاريين، وكراهية الحياة، والانفصام، وعبادة الدكتاتورية، ومئات الآلاف من القتلى، وملايين اللاجئين.
المرض عضوي، ومنه تستمد الثورة المضادة، وهي حصنه المنيع، شرعيتها ومرافعاتها، وبسيفه تعاقب “المجانين المتآمرين“ سابقاً، و“المهزومين“ حالياً (ومؤقتاً)، الذين تطاولوا على “ولاة الأمر“، وهتفوا، ذات يوم، “الشعب يريد إسقاط النظام“.
khaderhas1@hotmail.com
* كاتب فلسطيني