على مشارف دخول الأزمة السورية عامها الثامن، ساد الانطباع بأن النظام في دمشق في طور تحقيق انتصار ناجز، وأن التطبيع العربي الذي بدأ مع زيارة الرئيس السوداني، عمر حسن البشير، سيتواصل وأن تركيا والقوى الغربية المناوئة له ستسلك نفس النهج. لكن، في موازاة القرار الأميركي، في ديسمبر الماضي، بالانسحاب من سوريا وتفاعلاته، لجمت واشنطن الاندفاع العربي أو بعض الحماس الأوروبي باتجاه إعادة الوصل مع دمشق.
واليوم مع النهاية المنتظرة لتمركز دولة الخلافة المزعومة على الأرض، يبدو أن “ربع الساعة الأخير” للنزاع السوري يطرح بإلحاح وضع شرق الفرات المستقبلي وحالة إدلب ومشروع المنطقة الآمنة، وكل ذلك قنابل موقوتة وسيناريوهات لتجدد صراعات، مما يؤشر إلى أن الوظيفة الجيوسياسيىة للحروب السورية لم تستنفد غرضها بعد، وأن تصفية الحروب يمكن أن تتخللها حروب إذا لم يتوفر حد أدنى من الوفاق الروسي- الأميركي.
لم يكن وزير الخارجية الفرنسية، جان- إيف لودريان، مخطئا في وصف قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في 19 ديسمبر 2018، عن الانسحاب باللغز الذي يحتاج إلى تفكيك تداعياته وآفاقه، ولم يتردد الرئيس إيمانويل ماكرون في احتجاجه على قرار ترامب “يُنتظر من الحليف أن يكون محل ثقة”. وهي ليست الخيبة الأوروبية الأولى من سياسات البيت الأبيض، كما تقول مصادر بروكسل.
ولذا سعت المؤسسات الأميركية، عبر البنتاغون ووزير الخارجية ومستشار الأمن القومي، إلى طمأنة الأكراد نواة “قوات سوريا الديمقراطية” والحلفاء الإقليميين إزاء التخبط والتخوف من انعكاسات قرار الانسحاب.
بعد وعد الرئيس الأميركي نظيره التركي حول إقامة منطقة آمنة، جرى تداول عدة سيناريوهات لملء الفراغ وتنفيذ مشروع المنطقة الآمنة على شكل اتفاق تركي- أميركي، أو اتفاق تركي- روسي من أجل إقامة منطقة “آمنة”على الحدود التركية- السورية ابتداء من منبج حتى المالكية عند نهر دجلة.
لكن ذلك تعذر لأن واشنطن طلبت من أنقرة قبول بقاء “قوات سوريا الديمقراطية” في المنطقة وتقديم ضمانات بعدم التعرض للأكراد. من جهتها اقترحت موسكو تفعيل اتفاقية أضنة الموقعة عام 1998 من قبل الحكومتين التركية والسورية، وهذا يستدعي مصالحة مع نظام دمشق رفضها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في قمة سوتشي الأخيرة وهذا يفسر هجوم الرئيس بشار الأسد الحاد ضده قي خطابه الأخير.
على غرار البلبلة ضمن ثالوث مسار أستانة، يسود التخبط “التحالفَ الدولي ضد داعش” لأن الجانب الأوروبي رفض طرحا أميركيا يقضي بالبقاء إلى جانب “قوات سوريا الديمقراطية” ولعب دور أساسي في الفصل بين الأتراك والأكراد أو في تكوين المنطقة الآمنة. ويبدو أن طلب واشنطن جاء بعد عدم التأكد من تمرير أفكار بديلة مثل إشراك البيشمركة من كردستان العراق أو قوات تابعة لرئيس الائتلاف المعارض الأسبق أحمد الجربا، أو للتيقن من صعوبة التوسط بين أنقرة والأكراد السوريين من جماعات الاتحاد الديمقراطي والحماية الكردية نظرا للارتباط العضوي مع حزب العمال الكردستاني العدو الرقم واحد لتركيا. كذلك سقطت عمليا كل الأفكار حول دورٍ لمنظمة الأمم المتحدة من أجل إقامة منطقة عازلة على طول الحدود مع تركيا على غرار قوى حفظ السلام حول العالم المنتشرة، وتراجع سيناريو مصالحة الأكراد مع النظام برعاية روسية نظرا لشروط النظام ولعدم حماسة طهران من جهة، ورفض واشنطن القاطع من جهة أخرى.
من الواضح بعد كل المناورات أن واشنطن رفضت التنازل لأنقرة لأنها تريد الاحتفاظ بـ”الورقة الكردية السورية” أو بجزء منها، وهذا ما يفسر تصريح جيمس جيفري، المبعوث الأميركي المختص بالملف السوري، بأن اتفاق الأكراد مع دمشق أو موسكو يعني سحب الدعم الأميركي للأكراد. لكنه في نفس الوقت يبين سيناريو آخر وهو فرض “منطقة آمنة” نسبيا للأكراد ولو من دون أي اتفاق مسبق مع أنقرة أو غيرها، وذلك عبر فرض منطقة حظر جوي في شرق الفرات السوري في مرحلة ما بعد 30 أبريل 2019 كما فعلت واشنطن في شمال العراق بين عامي 1991 و2003 . ويأخذ هذا السيناريو الأرجحية مع إعلان البيت الأبيض، في 22 فبراير الحالي، عن قراره ترك “مجموعة صغيرة لحفظ السلام” من 200 جندي أميركي في سوريا لفترة من الوقت بعد انسحابها. وهذا يؤكد أن بقاء قاعدة التنف في الجنوب السوري بالإضافة إلى هذا التواجد في شرق الفرات، يعني أننا أمام إعادة انتشار للقوات واستمرار الاهتمام بالملف السوري.
قبل صدور القرار الأميركي الأخير، كان التشكيك الروسي في ذروته ووصل الأمر بوزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف إلى اتهام واشنطن بالعمل على إنشاء “دويلة في شرق الفرات” وهذا ما سيزيد أيضا في حيرة رجب طيب أردوغان وخياراته على المدى القصير سواء إزاء الوضع في إدلب أو حيال شرق الفرات والمسألة الكردية. وهذه الحالة من التخبط تسري أيضا على اللاعبين الآخرين لتحديد أولوياتهم.
من اللافت أنه بالرغم من النهج الدعائي لكل من واشنطن وموسكو في الحرب ضد الإرهاب، يكتنف الغموض “اليوم التالي” لمرحلة ما بعد “داعش” وما بعد “النصرة”، ومن الصعب تفكيك أسرار وألغاز مسألة إعادة الجهاديين الأوروبيين أو تركهم في التيه أو الأسر، وكذلك مصير المقاتلين من أصول آسيوية أو عربية عند طرفي “الجهاد”.
في مقابل الالتباس حول أولويات واشنطن وخططها الفعلية، تحاول موسكو من خلال ورقة إدلب استمرار انتزاع إدارة الصراع السوري. لكن ليس من الأكيد أن يحبذ الرئيس فلاديمير بوتين القطيعة مع تركيا ويفضل المساومة معها عبر ربط مصير إدلب بمصالحها المفترضة في شرق الفرات. وبالطبع لا يسهل وجود “النصرة” المهمّة، ولذا تزداد الشائعات والتسريبات عن مصرع أبومحمد الجولاني أو إصابته بجروح خطرة في انفجار هز المنطقة الأمنية في إدلب خلال الأسبوع الماضي.
وما يزيد التعقيد ما يقال أيضا عن إبلاغ واشنطن أنقرة والرياض وبعض محاوريها من السوريين بأن “سيطرة الروس والإيرانيين والنظام على إدلب وشمال شرقي سوريا من شأنها أن تنهي عمليا الحل السياسي”.
هكذا تحتدم اختبارات القوة في شمال سوريا وشرقها في هذه المرحلة إبان “ربع الساعة الأخير” من الرقصة الجهنمية على الركام السوري، ومن المنتظر أن يتبلور شكلها في الجنوب بعد الانتخابات الإسرائيلية.
خلال ثماني سنوات، انقلبت كل المقاييس في بلاد الشام وكانت التغريبة السورية عنوان تغيير وجه الإقليم، وصولا إلى التوازنات المهتزة بين الولايات المتحدة المتخبطة والمنهكة وروسيا القلقة والمصممة وأوروبا الضعيفة والضائعة. وأما الخسارة الصافية فكانت للحصانة العربية ولسوريا دولة وشعبا، قبل ربع الساعة الأخير وبعده وحتى إشعار آخر.