الرئيس الأميركي يعاني من إدارة أزمة الجائحة أكثر مما يسيطر عليها خاصة بعد تقويض حجج حملته الرئيسية في النجاح الاقتصادي.
لم يكن الرئيس دونالد ترامب يتصور أسوأ من هكذا سيناريو في السنة الانتخابية المصيرية، فبعد أن كان يرى الدرب ممهدا لإعادة انتخابه في نوفمبر القادم، إذ بوباء كورونا المستجد يحل على الولايات المتحدة والعالم ضيفا ثقيلا ويغير التوقعات ويتحكم بجدول الأعمال.
في البدايات كان واضحا أن الرئيس الأميركي يعاني من إدارة أزمة الجائحة أكثر مما يسيطر عليها خاصة بعد تقويض حجج حملته الرئيسية في النجاح الاقتصادي وهذا ما حدا به في الكثير من إحاطاته الصحافية للإعراب عن إحباطه وحنينه لماض قريب جدا. لكن بالرغم من طبيعته المتقلبة وولعه بالمجابهة المفتوحة، أخذ سيد البيت الأبيض يستدرك الأخطاء الأولية ويغلّب المرونة ويحاول تحسين إدارة الأزمة ومواجهة تحديات جمّة.
في المقابل، حسم الحزب الديمقراطي أمره إذ قفز أفضل مرشحيه جو بايدن إلى واجهة السباق مما جعل المعركة الرئاسية متوازنة وأكثر حدة، وستكون تنافسية بامتياز حيث لن تحسم الولايات المتحدة خياراتها داخليا فحسب، بل سترسم أيضا إطارا لإعادة تركيب عالم ما بعد كورونا.
كشفت هذه الأزمة بجلاء ضعف النموذج الاجتماعي والسياسي الأميركي: 22 مليون عاطل عن العمل دون إعانات، يجد الكثير منهم أنفسهم دون تأمين صحي، ونظام صحي عام غير ملائم، وبلد منقسم، وإدارة في البيت الأبيض مثيرة للجدل، مع رئيس يظهر وكأنه في صراع مفتوح مع حكام الولايات وكل ذلك يزعزع الثقة.
من هنا تأتي محاولات عدم خنق الاقتصاد عبر شراء الاحتياط الفيدرالي لديون الشركات والمساعدات المكثفة للعاطلين عن العمل والمحتاجين والمزارعين. لكن الانهيار غير المسبوق لسعر النفط يوم 20 أبريل “الاثنين الأسود”، زاد من متاعب الرئيس الذي سيحاول مع الفتح التدريجي للبلاد أن يقود عملية الإنعاش اعتبارا من يونيو القادم.
لكن الأدهى حصل كذلك لأن الأشهر الثلاثة الماضية ألحقت اضطرابات شديدة بالنظام العالمي الذي تتبوّأ فيه واشنطن الصدارة. ومن دون الحكم المسبق على النتيجة النهائية أو التعديلات أو شكل العالم الجديد، يمكن الكلام عن تسريع الاستحقاقات وعن مخافة بقاء العالم من دون قيادة وحوكمة. وفي هذا الإطار أسهم ترامب منذ وصوله في العام 2017 بذلك، لأن ممارسة القيادة العالمية اصطدمت من دون شك بعقيدة “أميركا أولا”.
وقد أدى تفشي الفايروس في خضم الحملة الرئاسية في نوفمبر والكارثة الاقتصادية التي تصاحبه إلى تفاقم هذه العملية. أدار ترامب ظهره لأوروبا وظل رافضا لأي تعاون دولي جدي، مع قراره تعليق المساهمة الأميركية لمنظمة الصحة العالمية في خضم أزمة الجائحة، إذ تعامل معها بمثابة كبش فداء على نفس المستوى مع الصين التي تتهمها الإدارة الأميركية بعدم التصريح عن المعلومات منذ نوفمبر 2019 وتأثيرها السلبي على منظمة الصحة العالمية التي تأخرت في تقييم خطر الوباء وإعطاء الإنذار في الوقت الصحيح. وبينما حاولت باريس عبثا تأمين عقد قمة الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، لم تهتم واشنطن وبكين وموسكو بالدعوة. وبانت عقدة أخرى داخل مجلس الأمن حينما أصرت الولايات المتحدة على اتهام الصين بانتشار الفايروس التاجي في سياق قرار للأمم المتحدة يدعو إلى هدنة عالمية.
في خضم احتدام التوتر الأميركي – الصيني في زمن كورونا، لا ينفك دونالد ترامب عن التذكير بإنجازات السنين الثلاث من ولايته ويفاخر بقوله “كان لدينا أكبر اقتصاد في تاريخ العالم. لقد كان أداؤنا أفضل من أداء الصين، أفضل من أي بلد في العالم، أفضل من أي بلد آخر. كان لدينا حتى الآن أعلى سوق للأوراق المالية في التاريخ”.
بالفعل، قبل اندلاع أزمة الجائحة بشهرين كانت الأخبار السارة تتجمع لدى ترامب: مُنع الجمهوريون في مجلس الشيوخ من إجراء محاولة العزل الذي بدأه الديمقراطيون، وكانت جميع المؤشرات الاقتصادية خضراء، وكان يستعد لجني ثمار الاتفاقية التجارية الأولى مع الصين.
وأتى كوفيد – 19ليقلب كل شيء رأسا على عقب وزاد معدل البطالة بأكثر من الضعف في غضون شهر واحد، مما حرم سيد البيت الأبيض من الشعار الرئيسي لحملته الانتخابية، ولذا تبعا لعدم قدرته فرض وقف الإغلاق بسبب بعض حكام الولايات أو مراعاة لآراء مستشاريه العلميين، لجأ ترامب إلى خطوات الدعم السريع لقطاعات الأعمال بالإضافة إلى قراره تعليق الهجرة إلى الولايات المتحدة وذلك بسبب “الحاجة إلى حماية وظائف مواطنينا الأميركيين العظماء”، وفق المصطلح الترامبي.
بالإضافة إلى كبشي الفداء في الخارج (الصين ومنظمة الصحة العالمية) لا ينسى ترامب معاركه الداخلية ولم يتوانَ عن إلقاء اللوم بسرعة على النقص في الإمدادات الطبية للإدارة السابقة، أي إدارة باراك أوباما، متناسيا أنه بدأ في يناير عامه الرابع في منصبه.
وتندرج ضمن البحث عن كبش فداء داخلي سجالات ترامبية مع بعض حكام الولايات وأبرزهم حاكم نيويورك الديمقراطي الطموح أندرو كومو. ويبرز التناقض في أداء ترامب مع الدعم الذي لم يتوقف عن تقديمه، منذ 17 أبريل، إلى الحركات الاحتجاجية اليمينية المتشددة التي تنظمها أقلية محدودة للغاية والتي تطالب في بعض الولايات برفع تدابير الاحتواء على الفور مع شعارات “مستهجنة”؛ “مينيسوتا مجانية!”، “ميشيغان الحرة!” و”حرروا فيرجينيا”.
هذه السابقة مع الاندفاع إلى شراء الأسلحة بعد قرارات الإغلاق تعطي دلالات عن هشاشة في النسيج الوطني الأميركي وإمكانية نشوب نزاعات داخلية في حال كانت نتائج الانتخابات الرئاسية غير حاسمة ورفض أحد المرشحين الإقرار بهزيمته. ووفق تطور الوضع، سيقوم ترامب على الأرجح بتعديل استراتيجيات حملته الانتخابية وتواصله الإعلامي ويحاول من خلال تسويق دوره في إدارة الأزمة والقدرة على القيادة وأسبقيته في مجابهة الصين والآخرين كعوامل تحفز إعادة انتخابه.
في المقابل، يلعب جو بايدن، البالغ من العمر 77 عاما، محاولته الثالثة للوصول إلى البيت الأبيض. ويسعى من خلال الدفاع عن ألوان الحزب الديمقراطي من تجميع غالبية تياراته من المتعاطفين مع رئيسه باراك أوباما ومن اليساريين. فمن المفارقات أن الفائز في الانتخابات التمهيدية الديمقراطية لم يفز في معركة الأفكار مع بيرني ساندرز خاصة اقتراحه إنشاء ضمان اجتماعي عمومي بقيادة الدولة الفيدرالية، وهو موضوع يجد زخما جديدا مع أزمة الفايروس التاجي.
في مواجهة آلة ترامب، في حين رفع الحزب الجمهوري تحييد تصويت الأقليات الاجتماعية غير المتوافقة معه، ليس أمام جو بايدن سوى القليل من الخيارات إذ يجب عليه أن يحتفظ بأي ثمن بالناخبين المعتدلين في المناطق شبه الحضرية التي ضمنت نجاح الديمقراطيين في مجلس النواب (نوفمبر 2018).
ولوحظ أن بايدن قام بالفعل بتعديل برنامجه في منتصف مارس حول ضمان القدر الأكبر من التعليم العالي للفئات المحرومة. كما وعد بإلغاء ديون الطلاب ذوي الدخل المنخفض والطبقة المتوسطة. واقترح أيضا تمديد برنامج التغطية الصحية الفيدرالية للرعاية الصحية عن طريق تخفيض عتبة السن من 65 إلى 60 سنة.
يحاول جو بايدن البروز بمظهر القادر على استيعاب الصدمة التي يسببها الوباء وتخفيف تداعيات الانفجار الاقتصادي المذهل الذي يسببه. وبالرغم من أن هذا التجميع للديمقراطيين أمر حتمي للفوز في نوفمبر. تدلل استطلاعات الرأي النادرة أن حسم المعركة الرئاسية سيكون قبل كل شيء في ثلاث ولايات: ويسكونسن وميشيغان وبنسلفانيا، التي انتزعها دونالد ترامب من الديمقراطيين في عام 2016.
لا نعلم مدى المتغيرات في الولايات المتحدة الأميركية من الآن إلى نوفمبر، وكم سيلقي زمن كورونا بظلاله على الاستحقاق الرئاسي وظروف إجرائه. إنها معركة العمر للمرشحين المتنافسين وطابعها المصيري يطال العالم ككل.
khattarwahid@yahoo.fr