مشهد يتكرر وبات شبه مألوف في الفترة الأخيرة. مسؤولون في “حزب الله” يقفون متكلمين يكيلون الاتهامات للاخصام يمينا ويسارا بالعمالة والارتهان للخارج وقبض الاموال من السفارات. غير ان المثير في هذا السلوك انهم لا يفكرون للحظة بما هم عليه وبما يقولون، ولا يلتفتون الى ما يدور حولهم وبما هم محاطون.
فقد وقف أمس احد قادتهم الشيخ نبيل قاووق متكلما عن الاستحقاق الانتخابي الذي يستعد له اللبنانيون في 15 مايو/ايار القادم لاختيار مجلس نواب جديد، وشن هجوما على اخصامه الساسيين، وبالأخص المجموعات الصاعدة من رحم انتفاضة “ثورة 17 تشرين” 2019 على الطبقة السياسية الحاكمة، والتي تستعد لتنظيم وتوحيد صفوفها لخوض الانتخابات البرلمانية، متهما اياهم بـ « العمالة والسعي لتخريب البلد والعمل وفق اجندة خارجية، وبتمويل اميركي… ». ساق قاووق اتهاماته هذه ناسيا او متجاهلا انه محاط، وراءه حيث يقف مفوها، بصور عملاقة للخميني والخامنئي وسليماني؟! لا علم لبنان، ولا أي شيء آخر او أي اشارة تدل على انه لبناني او يتكلم في لبنان وعن لبنان. وهم في الأساس لا يرفعون العلم اللبناني ولا يعتمدونه ولا يتداولون به، وانما فقط علم حزبهم الاصفر اللون الذي كتب عليه “حزب الله” تعلوه قبضة ترفع سلاح كلاشينكوف، ويجانب هذا الشعار تعريفهم عن أنفسهم بانهم “المقاومة الاسلامية في لبنان“!
نعم مقاومة اسلامية في لبنان، وهم طبعا يجاهرون بذلك، وليس مقاومة لبنانية او وطنية اي انهم يمارسون هذه “المقاومة” من لبنان. وقد عملوا المستحيل واستعملوا الوسائل كافة للقضاء على المقاومة الوطنية اللبنانية، التي سبقتهم بسنوات وانطلقت قبل ان تزرع ايران “حزب الله” في الجسم اللبناني من اجل القضاء عليها بمساعدة ودعم النظام السوري الذي يؤمن لهم السلاح وكل التسهيلات اللوجيستية، وكذلك الغطاء السياسي من قبل السلطة المرتهنة منذ الثمانينيات لسلطة وقرار آل الأسد.
وأول مرة اضطر فيها حسن نصرالله امين عام الحزب لرفع علم لبنان خلفه كانت بعد 35 سنة على نشوء حزبه على اثر اندلاع الانتفاضة الشعبية في 2019 والتي شعر انها تهدد سلطته ومكتسباته ووضع يده عمليا على القرار اللبناني الذي تم مع انتخاب ميشال عون رئيسا للجمهورية عام 2016. يومها وقف نصرالله مدافعا عن النظام ومكونات السلطة من شركاء واتباع، ومهددا الشباب المنتفض بانه لن يسمح باسقاط رئيس الجمهورية والحكومة ومتهما اياهم بانهم مأجورون وعملاء لسفارات اجنبية، كما انه لم يتوانَ عن مهاجمة المعتصمين في الساحات واستعمال السلاح ضدهم.
وقد اعتاد اللبنانيون على هذا السلوك الأرعن والوقح في التعاطي معهم وكيل شتى انواع الاتهامات لهم، واتهام كل من يعارض او يعترض بالخيانة والعمالة والتهديد بعظائم الامور. فالعمالة هي التهمة الجاهزة التي يلصقها بكل من يخالفه الرأي، يمارسها بشكل وقح لارهاب المتجريء على اعتبار ان العمالة بما هي تعامل وتواطؤ مع العدو هي خطيئة لا تغتفر، وهي كبرى المعاصي، فيها السياسي وفيها الوطني، وفيها الشرف والعرض والكرامة، وفيها الأخلاقي. وكأنه يسقط كل ما هو فيه وما يمارسه على خصمه اذ ان كل هذه المعاصي يجسدها هو بامتياز كونه تابع لدولة ونظام خارجي، ليس فقط غير لبناني وانما حتى غير عربي، وطبعا هذا لا يعني ان التبعية لنظام عربي مبررة… وهو يلتزم سياسة هذا النظام ونهجه وعقيدته وايديولوجيته وثقافته وسلوكياته ونمط حياته، ويخضع لاوامره وينفذ أمر عملياته. فهذا نصرالله يعلن جهارا ويكرر ان حزبه “يتبع ولاية الفقيه” وانه شخصيا “جندي في ولاية الفقيه“، وان “تمويل حزب الله ومعاشاته واكله وشربه وتموينه وسلاحه وذخيرته من ايران“. علما ان من يقع في فخ العمالة يمارس هذا الدور بمنتهى الخفاء ويلتزم السرية والتكتم والحيطة والحذر لكونه يدرك خطورة ما يقوم به او ما تورط به.
اما “حزب الله” فانه يجاهر بعمالته ويعتز بها! اذا مارسها فهي مدعاة للتفاخر ومبعث للنشوة والطاعة والطمأنينة والتطهر، واذا مارسها غيره فتصبح تهمة ولعنة وخيانة، وجزاؤها احيانا التصفية. وتمكن المفارقة اليوم في ان لبنان يواجه مسألة ترسيم حدوده البحرية مع اسرائيل والمفاوضات قائمة على قدم وساق بوساطة اميركية التي يتهم “حزب الله” اخصامه والمجموعات الشبابية المنتفضة بالتبعية لها وقبض اموالها. وهو لم يعترض في الأساس عليها لان من اطلق المفاوضات منذ عدة سنوات ووضع لها اطارا مع واشنطن كان حليفه نبيه بري رئيس البرلمان ورئيس حركة امل. لا بل ان نصرالله نظّر لها بالقول انها مفاوضات غير مباشرة ولا تعني بالتالي اعترافا بالعدو الصهيوني وبحدوده. الآن، بعد صولات وجولات وصلت المفاوضات الى نقطة الحسم وبات على الطرف اللبناني المفاوض والمشكل من قبل رئيس الجمهورية، حليف “حزب الله“، ان يقابل الاسرائيلي في نقطة وسطية لكي يتمكن الوسيط الاميركي من ترتيب الصفقة. وكان لبنان طيلة فنرة التفاوض يصر، وبطلب من عون نفسه، على نقطة حدود الخط البحري 29 وسجل ذلك في رسالة رسمية الى الأمم المتحدة لتأكيد عدم استعداده للمساومة عليه. غير ان الوسيط الاميركي ولاعتبارات اقليمية وحسابات اسرائيلية وايرانية في آن لها علاقة في مفاوضات فيينا تدخل اخيرا وضغط لكي يتراجع لبنان عن هذا السقف العالي، فكان له ما اراد اذ اعلن عون وبشكل مفاجيء موافقة لبنان على التنازل عن الخط 29 الى الخط 23 الذي يساوي عمليا التخلي عن 1342 كلم مربع من حق لبنان في مياهه البحرية. ورغم الضجة التي اثارها هذا التنازل سياسيا واعلاميا وشعبيا رفضا لما اعتبره البعض بمثابة الخيانة للتخلي عن حق مثبت ولا لبس فيه، لم يتخذ “حزب الله” اي موقف والتزم نصرالله الذي أطل امس الاول على جمهوره الصمت ولم يتحدث عن ترسيم الحدود لا من قريب ولا من بعيد. لماذا؟ أليس في هذه المسألة مساومة مع العدو وتنازل عن ارض يدعي “حزب الله” تحريرها؟ أم لأن حليفه رئيس الجمهورية يحاجة لتقديم هذا التنازل المفضوح للادارة الاميركية طمعا بالحصول منها بالمقابل على رفع العقوبات الاميركية المفروضة على صهره ورئيس تياره جبران باسيل لأن الانتخابات النيابية على الابواب، ولأن الصهر يطمح لخلافة عمه في الانتخابات الرئاسية التي ستلي النيابية في الخريف الفادم؟ وايضا لان على “حزب الله” ان يتبادل هو والحليف العوني الاصوات في الانتخابات النيابية بعد ثلاثة اشهر، وان يبقى هذا الحليف المسيحي الى جانبه ويحافظا على الأكثرية النيابية في البرلمان المقبل؟ ام ايضا ان الاثنين قد ساوما الطرف الاميركي على الحدود من اجل ان تترك لهما السيطرة على السلطة والقرار الداخلي في مرحلة ما بعد الاتفاق النووي الذي ربما ادى التوتر في ازمة اوكرانيا الدولية الى تمرير صيغة مؤقتة ومنقحة عنه؟
لذلك، فان “حزب الله” يحاول التغطية على ما يجري حدوديا واقليميا بمشهدية تعكس هذا الارباك الذي يغرق فيه. فهو دأب على الترحيب باستمرار بالانتخابات واصراره على ضرورة اجرائها في موعدها مؤكدا انه لا يهاب خيارات الناس ويحترم نتائج صناديق الاقتراع، وفي المقابل يحذر من يراهن من القوى والاخصام السياسيين على حقه الديموقراطي في قلب موازين القوى وتحقيق الاكثرية في مجلس النواب بانه واهم لأن الاكثرية لا يمكن ان تحكم وتنفرد بالسلطة عندما لا تكون بيده، وانما الحكم في لبنان يصبح توافقيا، ويتهم السفارات بانها تريد قلب الطاولة وتغيير السلطة، متناسيا ان قاسم سليماني الايراني فاخر بعد الانتخابات البرلمانية الاخيرة عام 2018 بان ايران حققت اكثرية في مجلس النواب اللبناني بحصولها على اكثرية بلغت 74 مقعدا من اصل 128 وهي تسيطر على القرار في اربعة عواصم عربية!
وهكذا، فان العمالة تصبح وجهة نظر او تهمة جاهزة وغب الطلب نبلسها اللباس الذي يناسب مصالحنا!
*إضافة من الشفاف: لدى البحث عن صورة للشيخ القاووق « تَلبَق » لهذا المقال، عثرنا على التعريف التالي لـ « القاووق »: القاووق:قلنسوةٌ طويلة من ملابس الرّأس للفُرْس.(وهي كلمة دخيلة على العربية)! « ربّ صدفة خير من ميعاد »!