في كل مرة نزلت فيها إلى ساحتي الشهداء ورياض الصلح كنت أجد منظرا مختلفا عن المرة السابقة. شكل ومورفولوجية المكان وطريقة توزع وانتشار البشر وما يتواجد فيها بينهم من خيم ودوائر ومحتجين وباعة ومعدات وسيارات تبث الأغاني والأناشيد وشاشة تعرض فيلم Winter on Fire: Ukraine’s Fight for Freedom.
الوجوه التي أصادفها تتغير باسمرار كأنها مياه نبع لا تنضب. نادرا ما التقيت بالأشخاص ذاتهم مرتين متتاليتين. عندما تنزل الساحات في أوقات الاحتشاد يتهيأ لك أنك أمام بحر متماوج يقذف بموجه على دفعات نحو شاطئ ما. تموجات من الشباب يخالطهم الأكبر سنا. لسان حالهم ما قاله لي أحدهم: “عم نتعلم من أولادنا، نزلت من أجلهم هيدا جيل ما عنده زعماء”.
استعادوا المساحات العامة التي كانت حكرا على السلطات. تحول موقف اللعازارية (من أشهر مباني وسط بيروت) إلى “هايد بارك” (يجب التفكير في الحفاظ عليه بهذه الصفة)؛ مساحة للقاء والتبادل والزيارات والتعارف والمحاضرات والنقاشات المفتوحة قانونية وغيرها. لسان حالهم “القائد في غيره”، ردا على مقولة القائد المعصوم وإلى الأبد. يريدون مسؤولا ورجل دولة مهتما بتنفيذ ما تريده الأكثرية وليس زعيما يلحقونه أينما يريد.
إنهم أحرار من بلد الحريات.
تسير بينهم باطمئنان. يحاذرون التدافع أو المس بك أو إزعاجك بأي طريقة (سوى بعض المندسين الذين يمكن التعرف عليهم معظم الأحيان من وقفتهم أو نظراتهم الساخرة وملابسهم السوداء غالبا أو لهجة الهزء التي يطالعونك بها مع أو دون سؤال يوجه إليك دون مناسبة).
معظم الوجوه شابة نضرة تتطلع إليك بتعاطف وترصد حاجاتك، كما فعلت الصبيتان اللتان أصرتا على أن تقدما لي قنينة المياه التي لم أكن أملك فكة لشرائها.
المشهد مختلف تماما عن الاحتجاجات في السنوات القليلة الماضية التي تلت الانتفاضة الكبرى في العام 2005 التي نتج عنها خروج الجيش السوري من لبنان.
حينها وبعد أن تراجعت القيادات التي سنطلق عليها “سيادية” بالترهيب والترغيب بدأت بوادر حراك مدني وتبعه حركة “طلعت ريحتكم” في 2015.
تم إفشال هذه الحراكات من قبل السلطة القائمة بعدة طرق؛ فمن نزلوا إلى الأرض اختلفوا على شعار “كلن يعني كلن”. عدة أطراف اعترضت لأنها كانت تجد أن زعيمها خارج هذه الـ”كلن يعني كلن”. وانقسمت الحراكات وتم إخمادها مرحليا بآليتي الترهيب أو الترغيب.
أدت الظروف التي تبعت تلك المرحلة، من تعطيل للانتخابات وللمجلس النيابي ولتأليف الحكومات، مع تداعي آليات الفساد الى إفلاس البلد ككل وانكشفت المنظومة السياسية الحاكمة متعرية من آخر ورقة توت مع انخفاض سعر صرف الليرة.
اكتشف الشعب اللبناني أنهم كتلة واحدة مستفيدة من الأوضاع التي أوصلونا إليها. كل ذلك جعل شعار “كلن يعني كلن” مطلبا معمما لجمهور الثورة الذي انضمت إليه شرائح شيعية وازنة لأول مرة.
وكانت خطب الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله تلقي في كل مرة المزيد من الضوء على الدور الذي يضطلعه الحزب في حماية الطبقة الفاسدة وفي الحفاظ على الأوضاع السائدة التي تمكن عبرها من مصادرة إرادة الشعب اللبناني.
هدد نصرالله المحتجين وخونهم وأراد إدخال اليأس إلى قلوبهم من استحالة قدرتهم على التغيير. بعد كل خطبة كانت أعداد تزداد الغاضبين الذين بدأوا يستغربون اجتزاء معنى الكرامة. كرامة أمام إسرائيل في لبنان وليس في سوريا مثلا. “كرامة” لهدر كرامات اللبنانيين وإذلاهم وتجويعهم وطمرهم بالنفايات لتفتك بهم شتى الأمراض التي استجلبها تلوث البيئة اللبنانية بكافة الملوثات.
الطبيب الذي كان بمثل هدوء ونقاء المتصوف الهندي والزن الياباني بدأ معاينته لي بإفراغ قرفه مما أسماه “السموم” التي بثها من يفترض به حماية الدستور. السموم التي تنتشر بعد كل خطبة. ما لنا ولإيران! كفى، كفى، هي لسان حال كل لبناني.
حتى الطالب اليافع من جونية استطاع أن يعبر باختصار وفصاحة عن القرف العميم: “نزلنا لأن ما حدا بدو يسمعنا، لأن في لبنان حزبا معرفا دوليا أنه إرهابي، وصراحة نحنا جيل طالع لا نؤمن إلا بالجيش اللبناني يحمينا. وفيه نائب، هو أكتر نائب جاب أصوات بالبرلمان، جميل السيد، قال عبارة (لكم فسادكم ولنا سلاحنا). يعني غطوا سلاحنا ونغطي فسادكم. هذه هي المعادلة الوحيدة التي لدينا في الدولة للأسف. لازم نحط الأصبع على الجرح، ليسقط السلاح حتى يسقط الفساد…“.
أما حديث الطالبة الغاضب التي تركت جامعتها ونزلت إلى الشارع، وبحّ صوتها وهي تصيغ مطالب جيلها الشاب: “هلق بتوصلكم رسالة من قبل الإدارة إنه يللي ما عمل فحصه حياخد صفر. بدي قلكم شي، نحنا هيدي سياسة القمع اللي عم تواجهونا فيها وبتعملوا امتحانات بوقت عم نتظاهر كرمال شعبنا هيدا شي ممنوع هيدي ثورة طلابية. بدي قول لكل الأشخاص الأكبر منا سنا اللي بقولوا هول طلاب ما بدهم يتعلموا؛ منقلهم لأ انتوا اللي منعتب عليكم صارلكم 30 سنة عايشين بهالقمع وساكتين. نحنا يللي مستغربين مش انتو. شو كنتوا عمتعملوا 30 سنة؟؟ ليش قابلين تعيشوا بالفساد؟ ليش قابلين تعيشوا بلا مي وبلا كهربا؟ (…) أنا حقوق المسيحيين ما بدي إياها، وحقوق الإسلام ما بدي إياها، ما دام حقوق الأكل والشرب وحقوق الكهرباء ما عندي إياها شو هالحقوق هيدي يللي عمتصونوها؟ شو هالحقوق يللي عمتحاربوا بعضكم كرمالها وشعبكم جوعان وبعدهم الجامعات بدهم يغطوا على أنه في ثورة. هيدي الثورة ثورة لبنان. لا ثورة حزب ولا ثورة دين ولا ثورة طائفة. هيدي ثورة ناس مثقفة ومعلمة بدها تنزّلكم يا جهلا...”.
فقدت الطبقة السياسية الدرع الطائفي والمذهبي، صمام الأمان الذي استخدمته طويلا. فقدت حصانتها وأدوات عملها. انتهت صلاحيتها ولا تريد أن تصدق. وصفهم وزير الخارجية السابق ورئيس التيار الوطني الحر وصهر رئيس الجمهورية جبران باسيل “بالشلعوطين ونصف”، فنزلت التظاهرات تحمل يافطات وتصرخ: “نحنا الشلاعيط، نحنا الشلعوطين ونص”.
ينقل صحفيون قريبون من “حزب الله” أن “الحراك” انتهى وضمر. ويتهم أحزاب “القوات اللبنانية” و”التقدمي الاشتراكي” و”المستقبل” بتحريكه مجددا. هذا في الوقت الذي كانت فيه التظاهرات أمام منزل رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط. هناك أوصتني صبية أن أنقل “أنها كانت مع المستقبل وتحب سعد الحريري. لكن راتبها تقبضه من فلان، صاحب البنك الذي تعمل فيه. والأزمة تطالها كما غيرها. وأنها لن تتبع زعيما بعد الآن”.
هذه الصبية، والطالبة والجيل الشاب بفتياته وفتيانه مع هذا الشعب، من حقهم أن يذهلوا العالم باللاعنف والوعي والرقي الذي طبع كل خطواتهم. يحق لهم أن يقولوا للجيل الكبر سنا “أنتم فشلتم فدعونا نأخذ عنكم المهمة. دعونا نبني لبنان الجديد الذي أراده رجال الدولة النادرين الذين حكموا وحوربوا من الطائفيين ومن الزعماء التقليديين، والذين لم يبلغ فسادهم نقطة في بحر الحكام الجدد. صار يحق لنا أن نحلم معهم بلبنان جديد لا طائفي بمناسبة اقتراب مئوية إعلان لبنان الكبير”.
الملفت كان محاولة بناء جدار إسمنتي لقطع طريق نفق نهر الكلب. الأمر الذي ذكّر بثمانينيات القرن الماضي وتقسيم البلد وتقطيعه. سارع الشبان والمواطنون إلى فتح الطريق، وأعلن أحدهم أنه سلوك “لا يشبهنا بل يشبه الجيل اللي سبقنا. الجدار رمز الحواجز التي كانت تفصلنا. وقاموا بهدمه. نحن أزلنا الجدران (الرمزية)، نحن مع لبنان الجديد المنفتح على بعضه البعض”. وأعلن شاب آخر: “الطائفية وراءنا. لبنان واحد بلا طوائف. بدي اتنقل محل ما بدي مع صليبي وهو مع أي شعار ديني يريد دون عوائق”.
يرددون: ن حن نبني بلدنا. السلطة تحاول تشويه صورتهم فتعتقل شبانا سرعان ما يخرجون لبراءتهم من التهم. القانون والحقوق على كل لسان. أطلقت الثورة دينامية المحاسبة ولن يظل الحال على ما كان. بات القضاء محورا أساسيا من محاور التغيير، عبر نادي القضاة وعبر مجموعات المحامين الناشطين والمدافعين عن كافة الحريات والحقوق.
في موقف العازارية يجيبني أحمد: “شو بعمل هون؟ صيانة للوطن. قبل الثورة كنت أبحث عن فتاة أتزوجها لأهاجر وأترك البلد. كنت سأرضى بأن أضحي بحياة زوجية كما أريد كي أتخلص من الوضع”.
تسأل المذيعة تلميذة صغيرة: ألا تخافين على سنتك الدراسية؟ فتجيبها: “نحن نضحي الآن ونخسر القليل كي نربح الكثير فيما بعد. أنا أدرس وأتخرج وأجلس مع أهلي في البيت فما نفع دراستي؟ نخسر الآن لنربح بعدين. بدنا نستعيد مستوانا”.
لسان حال الجيل الأكبر حمله رجل من حي التنك المدقع في فقره: “جيلنا جيل حرب وسلاح، جيلهم جيل علم“. هذا الرجل يقول للمذيعة “يكفيني 15 ألف ليرة يوميا، أي 10 دولارات بسعر الصرف الرسمي، لأعيش بنعمة الله”.
أخبرني صديق صحفي أن أولاده من جيل الثورة لا يشاهدون التلفزيون، إنه متروك للجدات والأهل. قد يظن المرء أنهم لا يتابعون الأخبار لكن عندما يشير والدهم إلى حدث، يجد أنهم يعرفونه قبله. لم يعودوا بحاجة إلى الرغي، يفتحون هاتفهم الذكي يكبسون بعض الأزرار ويحصلون على ما يريدون. “غوغل” يوفر فائضا في المعلومات. ولا إضاعة للوقت.
إنهم شباب الألفية الثالثة، يمثلون الطفرة الديموغرافية ويشكلون حوالي 60 بالمئة من السكان في العالم العربي وفي لبنان. لديهم طموحات ومتطلبات يريدون الحصول عليها. متعددو الألوان والاطياف والاتجاهات من أقصى اليمين إلى اقصى اليسار من الذين لديهم مهارة صياغة الشعارات بسبب تجاربهم السابقة، مرورا بالبراغماتيين الذين يريدون أن يعيشوا كما بقية شباب العالم.
حصلت قفزة جماعية قضت على الفكرة المسبقة القائلة إنهم جيل غير مثقف لأنهم جيل الإنترنت. ساد الاعتقاد لوهلة أن النضال صار يقتصر على الفضاء الافتراضي وتحول إلى “لايكات” في عالم الرفيق مارك زوكربرغ. لكنه جيل يعرف. جيل يريد أن يغير وأن يعيش ككل شاب وشابة في العالم الأول. لم لا؟ لم علينا تصدير أدمغتنا التي يصرف على أعدادها وتعليمها مئات آلاف الدولارات!
ثورة جيل الألفية الثالثة. جميع المولودين بعد التسعينيات لم يعرفوا الحرب لكنهم ورثوا أمراء ميليشياتها ولا يفهمون لم يجب أن يحكمهم هؤلاء وبهذه الطريقة؟ إسرائيل عدو ولكن مقاومتها لا تعني هدر حقوقهم وكرامتهم بحجة تحريرها! كما يريدون البقاء في بلدهم، وأن يعيدوه جميلا وحرا سيدا ومليئا بالحياة. السيادة تعني أيضا الكرامة والحفاظ على مقدرات الوطن. شبعوا من أعلام الأحزاب والطوائف. لا يريدون أي أعلام، سواء رفعت أو حرقت، يريدون العلم اللبناني.
جيل الشباب قام بثورته الحقيقية. ثورة، ليس بوست مودرن، هذه تعابير قديمة. إنها ثورة العصر الرقمي السيبراني. ثورة عصر النانو الذي يسبر عوالم لا متناهية ويتخطى كل حدود.
إنهم جيل يتمتع بثقافة شاملة مختصرة وجامعة تصيب الهدف وتتخطى ما نعهده. وأول ما تشمل الحق بالحصول على ما نصت عليه شرعة حقوق الإنسان. يسبقون جيل الآباء ويعرفون ما يريدون. ثورتهم مختلفة لأنها ثورة حقيقية تغير المجتمع ككل وتتفاعل مع العقل الجمعي فتحدث فيه انقلابا لا رجعة عنه.
الثورة ليست فقط بتغيير الحكام بل بتغيير الذات وتمكينها ورفدها بالقدرة في الدفاع عن النفس. جيل الألفية الثالثة اللبناني تغلب على الإحباط واليأس وتبين أنه لا يهرب من المسؤولية ولا من المواجهة بل قادر عليهما.
إنهم ينفذون أكبر عملية اختلاط للمكونات اللبنانية ليس منذ انتهاء الحرب الأهلية، بل منذ تأسيس لبنان الكبير.
جيل ما بعد الحرب لديه لغة أخرى لا يفهم لغة الحرب. هم جزء من جيل الميلينيوم. لا يفهمون التعابير المذهبية التي تستخدم في غير مكانها الصحيح، ولا يفهمون لغة العنف، ولا يفهمون قدسية جهة تمارس السياسية الدنيوية والبراغماتية وتتجاهل حقوقهم الأساسية.
مقولة “الشعوب” اللبنانية التي استحسنها بها البعض انتهت إلى غير رجعة. لقد خرج المارد اللبناني من القمقم الطائفي.