حفلت الأيام العشرة الأخيرة بتداول خبرين على نطاق واسع، إنشاء اللجنة الأممية لاغتيال لقمان سليم، والدعوى الوجاهية ضد فارس سعيد، المقدّمة ضده من قبل حزب الله.
ففارس سعيد، المُطالِب بالسيادة وتطبيق الدستور والطائف وقرارات الشرعية الدولية والعودة الى الحاضنة العربية، يشكل خطراً على السلم الأهلي، وكاد أن يشعل حرباً أهلية، لأنه طالب بالتحقيق الدولي في المرفأ، لولا تدخل السيد نصرالله شخصياً!!
إذاً حزب الله؛ الذي يعتدي على السيادة، كفرض واجب، ويهدد جميع قيادات الدولة علناً، من جيش وأجهزة أمنية وحاكم مصرف لبنان والثوار وحتى الحليف الأقرب بري، وصولاً الى بطريرك الموارنة وسائر المشرق، يَعتبر عدواً كل من يطالب بالسيادة وتطبيق الدستور واحترام قرارات الشرعية الدولية وكشف ما حصل بالمرفأ.
هذه الدعوى القضائية تُعَد هجوما وقائيا ضد كل من يحرك ملف انفجار المرفأ، بسبب ثقل الضغوط التي يلقيها عليه ذيوع صيت ودور “العنابر” التي يشرف عليها الحزب ويمنع حتى السلطات الرسمية من الاقتراب منها. ومع محاولته فعل المستحيل لطمس ما جرى هناك، سيصعب عليه ذلك. المرفأ ليس عين قانا، في المنطقة التي يقبض عليها بيد من حديد، حيث اعتبر الانفجار “غيمة مارّة عبرت”.
علّق فارس سعيد على إعادة تحريك الدعوى قائلاً بأنها:” “ضعيفة لكن معانيها سياسية”.
كأن الحزب يكتشف سلاحاً جديداً للاستخدام، يضاف إلى ترسانة أسلحته التي يستخدمها على طريقة “وان واي”؛ مراهناً أن الخصم سيفتقد حق الرد، نظراً لعدم استقلالية القضاء.
يلجأ الى القضاء بعد أن ضرب به عرض الحائط مرارا وتكرارا، مطلقا على الدعاوى بحق افراده “كأنها لم تكن”، ومطوباً أصحابها قديسين. فيمتنع عن تسليم سليم عياش وغيره ممن حكم عليهم القضاء اللبناني.
فما هو الجديد على الساحة اللبنانية كي يلجأ مثله إلى القضاء؟ ربما تجيبنا أسئلة فارس سعيد: ما الذي يدفع حزباً يملك خلية اسمها الخلية 121 متخصصة بالاغتيالات السياسية وتصفي خصوم الحزب أنّ يتحول اليوم إلى ربط النزاع قضائياً مع بعض الشخصيات السياسية في لبنان؟ مستكملا “ستظهر الأجوبة لاحقاً، فربّما يكون هذا غطاءً لعمل أمني”، محملاً الحزب مسؤولية أي مكروه يصيبه.
ولقد سبق أن حمّل لقمان سليم وزرَ اي مكروه يصيبه للحزب، مع ذلك حتى الآن لم ينتج شيء عن التحقيق باغتياله.
لذا انشغلت الصحف والمنصات في الأيام الماضية لما يعتبر “بأنه سابقة” لم يشهدها تاريخ لبنان المزدحم بالاغتيالات: تبنّت الأمم المتحدة قضية اغتيال الناشط السياسي اللبناني لقمان سليم في منطقة جنوب لبنان. فقد تبنى 3 مقررين في الأمم المتحدة، فرع حقوق الإنسان، اليوم، قضية سليم، وهم: دياغو غارسيا، سايان وإيرين خان وموريس تيدبال-بينز. ومهمة المقررين في هذه القضية تكمن بـ”الضغط على المحققين المحليين للقبض على القتلة المأجورين وأسيادهم”، وتحضير “ملف مفصل يضم ما توفر لهم من معلومات وأدلة ويرفع إلى الأمين العام للأمم المتحدة قبل تعميمه”.
حان أوان انقضاء استخدام الاغتيال السياسي كوسيلة للحكم، وأداة لفرض السياسات ولإسكات المعارضة ولتمكين الاحتلالات وتمرير المشاريع والصفقات. ينبغي فرض رقابة دولية على القضاء المتفلت .
ذلك أن تقهقر وتدهور القضاء في بيروت التي عرفت بأنها “أم الشرائع” والتي تأسست فيها أشهر مدرسة حقوق منذ القرن الثاني الميلادي، أصبح فضيحة. ففي لبنان تدهور مفهوم العدالة بشكل غريب، بحيث يتم تناقل قضايا جرائم الفساد علناً وتفضح البرامج التلفزيونية عشرات القضايا الموثقة مع صفر نتيجة.
تقهقر مفهوم العدالة مئات القرون إلى الوراء، إلى زمن شريعة حمورابي. حيث لم تكن مبادئ الحرية والمساواة، المنتشرة اليوم، موجودة.
يشير كتاب “مختصر تاريخ العدالة” لمؤلفه ديفيد جونستون، أن التدرج الحاد في هرم السلطة والمنزلة الاجتماعية والثروة كان زمن شريعة حمورابي مقبولاً ويعتبر تجسيداً للنظام السياسي. والعدالة حينها كانت الاكتفاء في منع الأقوياء من اضطهاد الضعفاء وأن يحرموا بشكل ظالم من حقوقهم. بمعنى آخر كي لا يجردوا من المنزلة القانونية، وحقوق الملكية والحالة الاقتصادية التي يؤهلهم موقعهم الاجتماعي ضمن تسلسل هرمي لأن يصلوا اليها. فحقوق او ظروف الناس الضعفاء غير مساوية او قابلة حتى للمقارنة مع ما يتمتع به من يحتلون منزلة أعلى في مجتمعهم. من هنا يتخذ موقف القانون البابلي نمطا تكون فيه العقوبة شديدة او خفيفة تبعا لتلك الفوارق. فنجد: إذا فقأ إنسان عين إنسان حر سوف تفقأ عينه. اما إذا فقأ انسان عين عبد أو كسر عظمه سوف يدفع مينا (عملة فضية) واحد. أيضاً، إذا سرق إنسان (حر) ثورا أو خروفاً من ممتلكات احد القصور، يدفع مقابله 30 ضعفاً. أما إذا كان من ممتلكات احد الخدم فيدفع 10 اضعاف فقط.
طبعاً هذه ليست عدالة، من منظورنا الحالي، لانتفاء المساواة.
وعلى هذا النحو من الهرمية الاجتماعية وهذا المفهوم الطبقي للعدالة، يفرض حزب الله “طبقة” يحق لها المخالفة والاعتداء على القوانين دون أن تخضع للعدالة. جميعنا يعلم ان القانون لا يطبق الا في المناطق غير الخاضعة لسلطته. سأكتفي بمثالين او ثلاث على نظرتهم للعدالة.
ففي قضية النقيب الطيار سامر حنا، الذي قتل وعرف قاتله، فسجن حينها لمدة زمنية قصيرة وأطلق سراحه. قتل بعدها عام 2014 . علّقت القوات اللبنانية حينها بما يلي: “الشهيد مصطفى المقدم [استشهد بالامس في جرود عرسال وهو يدافع عن ظهر الجيش اللبناني]!! هكذا نعى “التيار الوطني الحر” في مدينة جبيل عبر صفحته على facebook قاتل النقيب الطيار سامر حنا! جعله بمصاف الشهيد، أي ساوى القاتل بالقتيل، المجرم بالشهيد.”
القضية الثانية تتعلق بفايز كرم الذي اعتقل بتهمة العمالة لاسرائيل، وأفرج عنه عام 2012. عندما فتحت محرك غوغل بحثاً عنه وجدت صفحة لويكيبيديا، لكنها فارغة! تم إغلاق معظم ما يتعلق بالقضية ربما كي لا “نستغلها” اعلاميا ضد الحزب والوطني الحر. المهم وجدت التالي على صفحة القوات:” أطلق اليوم الثلاثاء سراح العميد المتقاعد فايز كرم الذي اعتقل عام 2010 بتهمة التعامل مع اسرائيل وذلك بعد استفادته من تخفيض السنة السجنية.” أي سجن عامين.
لنقارن مع ما حصل بقضية عامر الفاخوري، الذي اضطر حزب الله لتقديم التنازلات فيها بسبب الضغوطات التي كانت تلاحقه تحت إدارة ترامب، فسكت عن قدومه الى لبنان وتغاضى عن تسفيره الى الولايات المتحدة. ثم اغتيل انطوان الحايك معاون الفاخوري، مباشرة بعدها، في دكانه في قريته المجاورة لصيدا. الحايك حوكم وسجن وافرج عنه وانخرط في القوى الأمنية قبل أن يتقاعد. وقتل في دكانه دون أن نعرف من ولماذا حتى الآن!!
هذا هو ميزان العدالة في لبنان. واذا دلّ ذلك على شيء، فعلى أننا في زمن ما قبل العدالة وما قبل القضاء واحترام القوانين، وأننا في المرحلة التي يصف فيها نيتشة إنزال العقاب بسبب الغضب عن الأذى المفترض. إن عدم تحرك القضاء هنا يعني قبول قانون الثأر. انتهت “الحادثة”، فدائرة الثأر اكتملت.
تبرهن هذه الأحداث – القضايا، إن هناك جمهورا أُقتنع انه “اشرف الناس”، وصار يتصرف أنه فوق البشر وفوق القوانين والدول والمجتمعات. يهدّد ويشتم في وسائط الاتصال وفي الفيديوهات وعلى الثوار في هتافات “شيعة، شيعة”. ويحمل السلاح على اللبنانيين علناً. واللائحة لا تنتهي. وهذا في زمن يتطور فيه مفهوم العدالة لدرجة ان مفكراً كجون راولز أطلق نظريته في “العدالة بوصفها انصافاً”. حيث أن مبدأ السعادة القصوى الذي كان محور العدالة في التيارات التي سبقته ليس كافياً. لأن فكرة العدالة التي لا توفر ما يكفي لضمان الحرية مصيرها التصدع. وهو بهذا يلتقي مع كانط في أن حرية البشر وليس سعادتهم هي التي ينبغي ان تحتل الصدارة في فكرتنا عن العدالة.
وحزب الله أقنعنا أنه وجد لتحرير لبنان وتحريرنا ولتحقيق العدالة والحق، في لبنان وفلسطين وفي العالم أجمع. بالنسبة لراولز فان العدالة التي تطبق على علاقات الأشخاص ليست أقل شأنا من مبادئ العدالة الاجتماعية. لكن الصحيح القول أن العدالة الاجتماعية تستمد جذورها من فكرة العدالة التي تطبق على العلاقات بين الأشخاص”. وممارسات حزب الله تعتدي على حريات الاشخاص وعلى حرية وسيادة كل لبنان.
إن تبني الأمم المتحدة للمقررين الثلاثة هو محطة تضاف إلى سابقة المحكمة الدولية للبنان؛ التي ومهما قيل فيها من تدوير زوايا وتمرير وقت وخضوع لشروط مسبقة، عينت بوضوح الجهة المسؤولة عن الاغتيال. معلنة بداية نهاية حقبة الإفلات من العقاب. سيكون لهذه اللجنة وظيفة وشأن مشابهين في بلد لم تصل فيه التحقيقات، حول مئات الاغتيالات، ومن بينها رؤساء جمهورية ورؤساء حكومة ووزراء ونواب وقضاة وقيادات عسكرية ورجال دين وصحافيين وكتاب وقادة رأي.. لأي نتيجة منذ اكثر من 40 عاماً وحتى الان.
هذه اللجنة، كما المحكمة الدولية تقول أن زمن العدالة بدأ مسيرته ولو تطلب الأمر سنوات وعقود. إنه بناء للمستقبل، مستقبل أولادنا وأحفادنا