تستمر تفاعلات الأزمة الدبلوماسية بين لبنان الرسمي ودول عربية في الخليج، والتي اعتبرها البعض “أخطر انفجار دبلوماسي في العلاقات السعودية-اللبنانية” وتسببت عملياً بما يشبه “عزلاً خليجياً” لبلد الأرز.
وبالطبع لم تكن تصريحات وزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي، إلا لتأكيد الرغبة في إتمام إلحاق لبنان بالمِحْوَر الإيراني. ولذا تندرج ردة الفعل السعودية والخليجية في سياق يرتبط بتطورات الوضع اللبناني منذ اغتيال رفيق الحريري في ٢٠٠٥. هكذا يجد لبنان المنهك والمسلوب نفسه في عين العاصفة وتزداد المخاطر المحيطة به، وتُعمِّق من أزمته البِنْيوية من دون أُفق للخروج من الوضع القائم.
اهتزت حكومة نجيب ميقاتي التي كانت معطلة أصلاً بسبب مسعى وقف التحقيق في تفجير المرفأ وحادثة “الطيونة – عين الرمانة”، وتكاد إرهاصات القطيعة مع الخليج تضرب بشكل حاسم هذه الحكومة بسبب انسداد الأُفق العربي والخليجي أمامها، نتيجة سقوط عهد ميشال عون وغالبية حكومة ميقاتي في قبضة المِحْوَر الإيراني.
وفي توصيف للأزمة من وجهة نظر سعودية، اعتبر وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان أنه “ليست هناك أزمة مع لبنان بل أزمة في لبنان بسبب هيمنة وكلاء إيران”، مؤكِّداً أن لبنان بحاجة إلى إصلاح شامل يعيد له سيادته وقوته ومكانته في العالم العربي.
في المقابل، قال هاشم صفي الدين رئيس المجلس التنفيذي في حزب الله: إن “مستقبل لبنان ليس بأيدي السعوديين” وإن “السعودية لا تحتمل أي انتقاد”. وأكثر ما يعبر عن احتدام الأزمة ما كشفه وزير الخارجية السعودي بأن “هيمنة حزب الله تجعل التعامل مع لبنان دون جدوى”.
وحسب إحصاءات سنة 2020 (تقلصت فيها الحركة بسبب كورونا) فإن حجم الصادرات مع المملكة العربية السعودية بلغ وحده ستمائة مليون دولار، وحجم الصادرات اللبنانية إلى الخليج العربي يفوق المليارين، ويتأثر ميزان المدفوعات في لبنان بتحويلات اللبنانيين في الخارج؛ إذ “إن نصف التحويلات أو أكثر يأتي من المملكة العربية السعودية أو دول الخليج”.
في المقابل، لا يمكن مقارنة العلاقات المحدودة جداً مع إيران بالعلاقات التاريخية والغنية بين لبنان والدول العربية في الخليج. وأتت مسألة جلب المشتقات النفطية الإيرانية التي كانت دعائية أكثر منها عملية، لتدلل على أن حزب الله ليس بإمكانه أن يكون البديل عن الدولة، ولا يمكن عزل لبنان عربياً ودولياً من أجل استمرار وضعه رهينة لخدمة مصالح المِحْوَر الإيراني.
إزاء الأزمة مع الخليج، برز انكفاء ميشال عون لأن قرداحي محسوب على زعيم مسيحي منافس (وزير الإعلام كان مقرباً من تيار عون وخطه السياسي، لكن بعد تصريحات قرداحي الموالية لبشار الأسد والمؤيدة لقتل الشعب السوري، تبنَّاه سليمان فرنجية زعيم تيار المردة ورشحه للحكومة)، أما نجيب ميقاتي فقد استغل فرصة مشاركته في قمة “غلاسكو” حول المناخ، ليجتمع مع الرئيس ماكرون والوزير بلينكين كي يطلب منهما وساطة واشنطن وباريس، لكن عدا تصريحات التشجيع على عدم الاستقالة، لم يحصل ميقاتي عمليّاً إلا على وَعْدِ زيارة وزير الخارجية القطري إلى بيروت لاستطلاع الوضع عن كثب. وازدادت الأمور سوءاً مع تسريبات وتصريحات عن السعودية لوزير الخارجية اللبناني عبد الله أبوحبيب، مما قطع الشك باليقين أننا أمام نهج عند فئة من اللبنانيين يخفي عنصرية ضد العرب وارتماء في أحضان إيران ولَعِبِ ورقة حلف الأقليات السيئة الذكر.
قبل الهزة الأخيرة، تسارعت الأحداث بعد فشل المسالك القانونية لتنحية المحقق العدلي في تفجير المرفأ القاضي طارق البيطار حيث قام الثنائي الشيعي بنقل الملف إلى مجلس الوزراء . ونتيجة الانقسام الحادّ حِيال تنحية البيطار أصبحت حكومة ميقاتي معطلة، وهذه المسألة فيها تكرار مشابه لاعتراض حزب الله على إنشاء المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رفيق الحريري.
هكذا في سياق الاحتقان إزاء ملف تفجير المرفأ، وعلى خلفية التدهور “الاقتصادي- الاجتماعي” وزيادة الاستقطاب السياسي، أتت حادثة “الطيونة” الدموية في 14 أكتوبر الماضي، ليس بعيداً عن مكان حادثة “عين الرمانة” شرارة الحروب اللبنانية بين 1975 و 1990، لتعيد إلى أذهان اللبنانيين ذكريات الزمن الأليم. إن رهان البعض على فائض القوة لفرض وجهة نظره، كما عدم استخلاص الدروس من التجارب ووجود ذاكرة انتقائية، يزيد من مخاطر عودة لبنان إلى الوراء .
زادت حادثة “الطيونة” من الاحتدام السياسي، ويسعى البعض لجعلها مقابل حادثة انفجار المرفأ ليرتدي الأمران أثواباً طائفية، وهناك محاولات عزل واستقواء وشيطنة من هنا وهناك. والأدهى إمكان تعطيل تحقيق انفجار المرفأ واستمرار شلل الحكومة في ظل تفاقُم الانهيار الاقتصادي والاجتماعي وضرب الآمال ببَدْء مسار إنقاذي .
يتنقل بلد الأرز من منعطف إلى آخر داخل نفق من دون أُفق واضح، وتبقى المنظومة نفسها مُمسِكة بزمام الأمور ضِمن دوامة المُحاصَصة والانقسام وإمكان العودة للأسوأ على حساب شعب مُنْهَكٍ في وطن مسلوب السيادة والموارد. وفي هذا الإطار، لا يَأبَهُ الفريق الحاكم (حزب الله – التيار الوطني الحر) بانعكاسات إسقاط هُوِيَّة لبنان العربية وضرب علاقاته مع المملكة العربية السعودية، وعلى الأرجح إن لذلك صلة مع التطورات الأخيرة في الإقليم من تراجع أنصار المِحْوَر الإيراني في العراق، إلى إمكان زيادة التنسيق “الأمريكي- الروسي- الإسرائيلي” ضد الوجود الإيراني في سورية. ولذا يسعى حزب الله إلى تشديد التحكم بالساحة اللبنانية من أجل إثبات وجود المحور الإيراني وإنجازاته في سياق جيوسياسي، خاصة أن المرشد علي خامنئي اعتبر يوماً لبنان “إزميرالدا” (شقراء قصة فيكتور هوغو “أحدب نوتردام”) أي “عروس الشرق التي سعى الكل لاجتذابها وسيطر عليها ما سماه “المقاومة الإسلامية” أي حزب الله…. والشاطر يفهم!
khattarwahid@yahoo.fr