تساورهم الشكوك من أن تتحول بلادهم إلى رهينة بأيدي الصينيين
في زيارته التاريخية النادرة التي بدأت يوم 17 يناير الجاري الى ميانمار (بورما سابقا) عمل الزعيم الصيني “شي جينبينغ” على تأكيد دور أكبر من ذي قبل لبلاده في هذه الدولة الآسيوية ذات الأهمية الاستراتيجية. وقد وصفنا الزيارة بالتاريخية والنادرة لأنه لم يسبق أن زار زعيم صيني ميانمار منذ الزيارة اليتيمة التي قام بها الرئيس الصيني الأسبق “جيان زيمينغ” سنة 2001 خلال جولة آسيوية له وقتذاك. ومما لا شك فيه أن أشياء كثيرة حدثت في الصين وأيضا في ميانمار بين التاريخين.
فحينما زارها زيمينغ قبل 19 سنة كانت ميانمار في قبضة نظام عسكري قمعي، وكانت لهذا السبب معزولة عن الدنيا كلها ولا تجد نافذة تطل من خلالها على العالم إلا عبر الصين التي لولا دعمها لها إقتصاديا وعسكريا ودبلوماسيا لانهارت. أي كحال كوريا الشمالية تماما. أما الصين فلم تكن وقتذاك تتربع على عرش الاقتصاد الثاني عالميا.
غير أن الوضع يبدو الآن مختلفا تماما، فميانمار تحررت كثيرا من قبضة الجنرالات القمعيين وبدأت في شق طريقها الصعب نحو نظام ديمقراطي مدني، معطوفا على إجراءات من شأنها تحرير اقتصادها الهش، الأمر الذي أغرى دولا كثيرة بطرق أبوابها. كما أن زعيمة المعارضة “أونغ سان سوشي” تحررت من الاقامة والعزلة الإجباريتين، وصارت هي الحاكمة الفعلية لبلدها من خلف الكواليس بالانتخاب الشعبي الحر، مما جعلها وحدها المسؤولة عن صياغة علاقات بلادها الخارجية.
إلى ذلك فإن ميانمار باتت محورا لتنافس أشرس بين الصين والهند واليابان بل وباكستان أيضا من أجل النفوذين الاقتصادي والاستراتيجي، كل على طريقته ولأهدافه لاسيما وأنها تحظى بموقع جغرافي مهم على طريق الإمدادات النفطية المتجهة من الخليج إلى الشرق الأقصى، دعك من أهميتها الفائقة للصينيين لمشروعهم الضخم المتمثل في المعبر الاقتصادي وطريق الحرير.
ومن هنا ليس غريبا أن تسعى الصين، الشريك التجاري الأكبر لميانمار والمقرض الرئيسي لها بنسبة 40 بالمائة من ديونها الخارجية لتجديد وترسيخ روابطها مع رانغون وإبداء إهتمام بالغ بها وباحتياجاتها التنموية خصوصا في ظل المقاطعة الغربية لها (بسبب إستمرار ميانمار في قمع أقليتها المسلمة من الروهانغيا، وانتهاكاتها لمبادئ حقوق الإنسان، ولاسيما منذ موجة الإبادة الجماعية الجديدة في عام 2017، وهي إبادة لا تكترث بها بكين كثيرا)، وفي ظل محاولات منافستي الصين الرئيسيتين وهما الهند واليابان إيجاد موطيء قدم قوي لهما فيها.
والحقيقة أن الهند، التي تشترك مع ميانمار في أشياء أكثر بكثير مما يجمع الصين وميانمار مثل الإرث الكولونيالي البريطاني والقرب الجغرافي والتشابه الثقافي حاولت أنْ تقوم بما تفعله بكين الآن لكنها لم تحقق النجاح المطلوب لأن نيودلهي ببساطة لا تملك الإغراءات التي تملكها بكين، وليس لديها مشروع طموح بمليارات الدولارات كمشروع المعبر الاقتصادي أنف الذكر.
وطالما أتيتا على ذكر هذا العامل الجوهري المسيل للعاب العديد من الدول النامية، فإن قادة ميانمار لئن بدوا مرحبين باهتمام بكين ببلادهم وحاجاتهم التنموية الكثيرة مثل تجديد البنى التحتية المهترئة وشق الطرق وإقامة السدود والموانيء والمشاريع الصناعية الحديثة وتدريب الأجيال الجديدة على المهارات المطلوبة عالميا، فإنهم في الوقت نفسه تساورهم الشكوك من أن تتحول بلادهم إلى رهينة بأيدي الصينيين. وبعبارة أخرى فإنهم متخوفون من أن تتكرر معهم تجربة الصين في سريلانكا (وهو ما أرغم الصينيين في عام 2011 على تجميد مشروع لبناء سد ضخم في ولاية كاشين الحدودية).
والواقع أن مخاوفهم مبررة ويسندها قلق جماهيري في شكل إمتعاض وتظاهرات شعبية من حين إلى أخر، خصوصا وأن الصين لا تعتزم مساعدة بلادهم من خلال الهبات وإنما من خلال قروض وديون مستحقة السداد في تواريخ معينة. وهذا هو مربط الفرس ومحور القلق.
وفي السياق نفسه يمكن الإشارة إلى مقال كتبته الزعيمة أونغ سان سوشي في الثمانينات أعربت من خلاله عن قلقها من تغلغل الصينيين في بلادها وسيطرتهم على إقتصادها. لكن يبدو أن أونغ سان سوشي غيرت اليوم موقفها في ظل الإنتقادات الغربية لها والتي وصلت إلى حد المطالبة بسحب جائزة نوبل منها، في الوقت الذي تحرص فيه بكين على تكرار مساندتها لها ودعم رانغون في ما تسميه حفاضها على حقوقها الشرعية وكرامتها الوطنية وتأمين الاستقرار في ولاية راخين (موطن الروهينغيا) حيث تقوم الصين بتمويل بناء ميناء ومنطقة اقتصادية بكلفة تزيد على 1.5 مليار دولار لربط الميناء بالمحيط الهندي.
Elmadani@batelco.com.bh
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين