تميز النزاع السوري متعدد الأطراف بالتهافت الإقليمي والدولي والرهانات الكبرى والمصالح المتضاربة، لكنه كان -ولا يزال- استثنائياً لجهة أسلوب المنظومة الحاكمة في استدعاء الخارج والتدمير المنهجي والإدارة الخبيثة للصراع والهندسة البشرية والجغرافيّة للبلاد.
ومما لا شك فيه بأن الوجود الإيراني العسكري والسياسي والاقتصادي والديني والثقافي أخذ يغير وجه سورية ويدمر هُويتها، ويجري ذلك في ظل الاختلال في ميزان القوى الإقليمي واندفاع بعض اللاعبين العرب للتطبيع مع المنظومة الأسدية، ويتم التبرير بذريعة رِهان غير واقعي على تقليص النفوذ الإيراني. وبالرغم من الخطورة القصوى للعامل الإيراني، تعاني سورية أيضاً من الوجود الأجنبي الذي يتوزع على مناطق النفوذ، وتتأثر بدون شك بالعاملَين الإسرائيلي والتركي وإنْ بدرجات متفاوتة.
تحت ضغط لعبة الأمم والتصدع الداخلي أصبح الكيان السوري كياناً قيد الدرس وأخذت الهياكل الموازية تهدد ما تبقّى من الدولة – السلطة، تماماً كما الحال في باقي البلدان الأعضاء في “النادي الإيراني”.
من غرائب الأمور في الأيام الماضية أنه بينما كان الاعتقاد يسود عند بعض ممثلي النظام العربي الرسمي بأن بداية التطبيع مع النظام السوري أمر ضروري من أجل عدم ترك الساحة السورية للتغلغل الإيراني، إذ بتصريحات تأتي من طهران تسفّه كل تلك المقولة، واللافت والمثير للسخرية كان على لسان العميد علي فدوي نائب قائد الحرس الثوري الذي قال: إن “تدخلنا في أي مكان يجلب الأمن.. انظروا لليمن وسورية”. من جهته، كشف علي غلام رشيد (قائد ما يعرف بـ “مقر خاتم الأنبياء” في تصريحات نقلتها وكالة مهر الإيرانية) أن قاسم سليماني اعترف قبل مصرعه بثلاثة أشهر بأنه قام بتنظيم ستة جيوش خارج الأراضي الإيرانية، وهذه الجيوش حسب غلام رشيد، تشمل حزب الله اللبناني، وحركتَي حماس والجهاد، وقوات النظام في سورية، والحشد الشعبي العراقي، وميليشيا الحوثيين في اليمن، مؤكداً أن تلك القوات تمثل قوة ردع بالنسبة إلى إيران.
إذا اعتمدنا التسلسل التاريخي للأحداث منذ زلزال سقوط بغداد، وضمن لعبة التجاذب الإقليمي والدّولي، وبعد تعثّر مشروع “الشرق الأوسط الكبير” الذي دعا إليه “المحافظون الجدد” في الولايات المتحدة الأميركية، أخذت إيران تعمل بزخم على تسويق مشروعها الإقليمي، نتيجة نفوذها في العراق بعد 2003، وتحالفها الإستراتيجي الحيوي مع النظام السوري وركيزتها الأيديولوجية في لبنان، وتحالفها مع حركتَي “حماس” و”الجهاد” الفلسطينيتين، وكلّ هذا سمح لإيران بالتمدد من طهران إلى غرب البحر الأبيض المتوسط. ويشكل هذا الإنجاز تتويجاً لحلم إمبراطوري إيراني في الوصول إلى قلب بلاد العرب، وهذا لم يحدث سوى مرّة واحدة منذ أيام الملك قورش.
تبعاً لهذا السياق الإستراتيجي انخرطت إيران وميليشياتها بقوة في سورية منذ 2011 للحفاظ على النظام الحليف، جوهرة المشروع الإمبراطوري والجسر نحو المشرق والبحر المتوسط، حيث حزب الله الركيزة الأساسية في الخارج لمنظومة ولاية الفقيه، وبالفعل تمادت القيادة الإيرانية في استغلال انهيار النظام الإقليمي العربي منذ سقوط بغداد في العام 2013، وقررت التوسع في المحيط العربي، والترويج في أوساط أنصارها إلى أن العرب الذين خضعوا للخلافة العثمانية المئات من السنين، سيرضخون أيضاً لدولة ولي الفقيه، أي إمبراطورية فارس المُتّخذة من الولاية السياسية المباشرة باسم الدين ذريعة للهيمنة.
هكذا ندرك أهمية “الاستحواذ الإيراني” تحت غطاء “الانتداب الروسي”، مهما جرى الكلام عن تناقض روسي – إيراني. والأدهى هو ما حصل من اقتلاع للسكان وتطهير مذهبي وتغيير ديموغرافي وتغلغل اقتصادي وديني إلى حدّ جعل المنظومة الأسدية التوءم السيامي لمنظومة ولاية الفقيه.
إزاء كل تلك العوامل والمتغيرات، يبدو جلياً أن التمكن الإيراني في سورية يمثل عقبة كَأْداءَ بوجه كل حل سياسي حقيقي، لأنه يمنح النظام هامشاً واسعاً للمناورة والتعنت. ولذا فإن رهانات بعض القادة العرب على تقليص النفوذ الإيراني ربما فاته قطار التاريخ، مع الإشارة إلى أن الضربات الجوية الإسرائيلية لم تؤثر بشكل حاسم في التغلغل الإيراني داخل النظام السوري والبنى السورية.
بناءً على ما تقدم لا يمكن التعويل على العاملَين الداخلي والعربي للتخلص من مجمل العامل الخارجي في الملف السوري وخاصة لناحية التغلغل الإيراني، وبما أن مآلات الأمور في سورية ستتوقف في نهاية المطاف على ترتيب أو اتفاق روسي – أميركي، لفت النظرَ في الأسبوع الماضي خبر يقول: إن “موسكو حثت إسرائيل على إقناع الولايات المتحدة بالموافقة على خوض محادثات ثلاثية على مستوىً عالٍ حول الملف السوري”. لقد سبق وحصل ذلك خلال حقبة ترامب في صيف 2017 بين مستشارِي الأمن في الدول الثلاثة، وكان الهدف هو الوجود الإيراني العسكري في الجنوب السوري وقرب دمشق. وحسب التسريبات، يُرجح أنه مقابل إمكان تركيز الجانبين الأميركي والإسرائيلي على مسألة الوجود العسكري الإيراني قرب الجولان وجنوب غربي سورية.
يسعى الجانب الروسي لبحث الخطوات الخاصة بالتسوية السياسية في سورية التي تعني بالنسبة إليه الاعتراف بإعادة تأهيل النظام، ومعرفة أين أصبح وعد إدارة بايدن للعاهل الأردني منح إعفاءات من “قانون قيصر”، من أجل السماح بتشغيل ” خط الغاز العربي”، في لفتة نحو لبنان (أرادتها واشنطن، تعويضاً لسقوط هيبتها وفشل عقوباتها ضد حزب الله الذي مرّر المازوت والنفط الإيراني إلى لبنان عبر سورية)، لكن آخر أخبار واشنطن تفيد عن تحفّظ أبدته وزارة الخزينة التي تنتظر معرفة التفاصيل العملية.
في مطلق الأحوال يبدو ظاهرياً أنه من مصلحة موسكو عدم تجذّر النفوذ الإيراني، وتشاطرها واشنطن ذلك. لكن سبق السيف العذل، إذ إن التمكن الإيراني داخل النظام في الجيش والأجهزة الأمنية، والاختراق الحاصل من خلال ستين ميليشيا (بعضها أخذ يستوطن تكريساً للتغيير الديموغرافي وتركيب سورية مفيدة تتجمع فيها الأقليات تحت سيطرة الأسد)، و” تعبئة شعبية”، و” دفاع وطني” .. كل ذلك يهدف إلى تغيير الهُوية السورية في العمق، والسعي إلى تغيير جوهر الكيان السوري، كما فعلت إيران بالنسبة إلى تأسيسها “حزب الله” في لبنان.
وهذا يعني بالنسبة إلى الكثير من المراقبين أنه يمنع إعادة سورية إلى الفلك العربي في المدى المنظور، ويطرح مصير كل بلاد الشام على محكِّ مخاضٍ ونزاعات طويلة المدى.
بدل الركض وراء سراب والتلهّي ببدء التطبيع مع المنظومة من أجل تغيير الوضع القائم في سورية، يجب أن يتطلع النظام العربي الرسمي إلى أحواله في المقام الأول، إذ إن التشرذم المستديم والهشاشة تجعلانه عاجزاً عن مواجهة التحديات.
في زمن فقدان الحصانة العربية اتسعت الاختراقات الإستراتيجية، وأتاح ذلك لإيران -مرحلياً- ترسيخ نفوذها في سورية، ومداعبة وَهْم تغيير كل وجه الشرق من خلال تغيير وجه سورية.
تبدو المعركة من أجل الهُوية والمصير في بلاد الشام طويلة وشاقة، ومرتبطة بإنجاز مشروع حضاري بديل عن ” سايكس- بيكو”، ومشاريع تقسيم المقسَّم، وهذه معركة أجيال سيكسبها الأذكى والأقوى.
نداء بوست