لا ينجو أحد من العاملين في الحقل الثقافي من مجابهة مصير المغفّل المفيد من وقت إلى آخر. وفي اكتشاف احتمال كهذا، والحرص على النجاة منه، ما يعني رقابة دائمة على التدفّق الطبيعي للأفكار، وتشذيبها وتنقيتها، كما يفعل مزارع في حقل، بل وحتى نزع السم الدلالي، أو زيادة جرعته، من حين إلى آخر. فلا يحق لأحد ادعاء البراءة.
ولكن، لماذا وكيف يصبح الإنسان مغفلاً ومُفيداً في آن؟ وما معنى هذه العبارة؟ يقول البعض إن لينين كان أوّل من نحت عبارة “المغفل المفيد“. لا يحظى هذا القول بالإجماع، وأرجّح أن تكون له، فهي تنسجم مع فلسفة أحد كبار الثوريين في القرن العشرين، وهوسه السياسي بتوظيف أي شيء، وكل شيء، قد يفيد قضية الثورة، بصرف النظر عن المصدر، والسياق المُغاير.
لذا، بدلاً من التفكير في مَنْ ابتكر العبارة، فلنفكر في معانيها المتداولة في المعاجم اللغوية الحديثة. وأقرب المعاني أن شخصاً أو جماعة يمكن أن يستفيدوا من أفكار شخص آخر، وأن يُعيدوا إنتاجها، حتى وإن كان الآخر نقيضهم في الفكر والسياسة، وكانت أفكاره الأصلية أعقد وأبعد من استغلالهم لها بطريقة نفعية وانتهازية تماماً. عندئذ يصبح المُستفاد منه (بفتح الفاء)، رغم أنفه، مغفلاً مفيداً في نظر المُستفيد (بكسر الفاء).
مثلاً، يستفيد الإسلاميون، عموماً، من نقد إدوارد سعيد للاستشراق الغربي. وفكرته المركزية، في هذا الصدد، أن الغرب ابتكر صورة الشرق في سياق محاولة السيطرة عليه، وإن الشرق المُبتكر ليس واقعياً تماماً بل ما شاء له خيال المركزية الأوروبية أن يكون. ومن هنا جاء العنوان الفرعي “للاستشراق” عن العلاقة بين “السلطة والمعرفة والإنشاء“.
وهذه الفكرة مدهشة، بالتأكيد، وقابلة للتوظيف في ما يخطر ولا يخطر على البال من مرافعات. فالمؤامرة الغربية على “الإسلام” مركزية في مخيال الإسلام السياسي، ونصوصه التأسيسية، وفي صميم مرافعاته الأيديولوجية، وفي هذا كله ما يكفي ويزيد لتوظيف سعيد، بالعربي السطو عليه، والاستفادة منه، كمغفّل مفيد.
وبالقدر نفسه، يُمكّن النقد السعيدي للاستشراق، منظوراً إليها بنصف عين، القومي المعادي للكولونيالية، والماركسي الباحث في علاقة الثقافة بالإمبريالية، من العثور في أفكار كهذه على أكثر من دليل وبرهان، وغالباً ما يكون القومي محباً للاستطلاع في موضوع علاقة الثقافة بالإمبريالية، ويكون الماركسي معادياً للكولونيالية. وفي كل الأحوال يمكن لهذا وذاك أن يصبحا مُغفلين مفيدين لدى الإسلامي من وقت إلى آخر. ويمكن لصاحب “الاستشراق” نفسه يمكن أن يكون مغفلاً مفيداً لدى كل هؤلاء.
ولكن لماذا المغفل المفيد، إذا أردنا منح كل هؤلاء رفاهية الشك كما يقال. ألم ينقد سعيد الغرب، ونزعته التوسعية، وتمركزه الثقافي، والعرقي على الذات؟ ولماذا لا يحق للإسلاميين والقوميين والماركسيين الاستفادة منه دون شبهة أو تهمة المغفل المفيد؟
الجواب: لن ينجو سعيد من مصير المغفل المفيد على أيدي كل هؤلاء لأنه لم ينتقد “الاستشراق” دفاعاً عن “الإسلام“، أو القومية، والماركسية، ولا في معرض فضح “مؤامرة” غربية، ولأن تحفظاته كثيرة على النسق الثقافي والحضاري العربي والإسلامي، وعلى الإسلاميين على اختلاف تسمياتهم وراياتهم، وكذلك على القوميين والماركسيين.
ومع هذا وذاك، لأن نقده للاستشراق كان ناقصاً أيضاً، ولم يشمل كل مدارس الاستشراق وبلدانه ولغاته، وهذا ما اعترف به في معرض الرد على برنارد لويس في تقديم طبعة لاحقة “للاستشراق“. ومع كل ما تقدّم، لأنه كان منزعجاً، أيضاً، من طريقة تأويل كتابيه “الاستشراق“، و“تغطية الإسلام” في العالمين العربي والإسلامي.
وقد سمعت منه بشكل مباشر، في مساء جميل وبعيد من أمسيات رام الله عن ترجمة “الاستشراق” إلى الفارسية، واجتهاد المترجم الإيراني في إضافة فصل جديد زعم أن المؤلف كتبه للإشادة بالثورة الإيرانية. تكلمنا في ذلك المساء عن فوكو، الذي حوّل نفسه، بمحض إرادته إلى مغفل مفيد في معرض الافتنان بالدلالة السحرية للمكون الديني في الثورة الإيرانية.
والواقع أن عددا لا بأس به من الماركسيين العرب وقع في غرام الثورة الإيرانية، بل واكتشف البعض أن المكوّن الديني شرط لا غنى عنه لنجاح حركة التحرر العربية، وتحرير فلسطين. وبين هؤلاء مَنْ اعتنق الإسلام، أيضاً. ومنهم مَنْ أصبح مغفلاً مفيداً في أيدي إسلاميين آخرين، أقل منه ثقافة، وهجنة، وأكثر تمرّساً في تمثيل الأصل.
وفي كل الأحوال، كان إدوارد سعيد معجباً بطريقة المثقفين الهنود في فهم “الاستشراق” وتحويله إلى أداة نظرية في مشروع لكتابة تاريخ الهند، ونقد الكولونيالية، وكان مستاءً من فهم العرب الهوياتي، والثقافوي، لـ“الاستشراق“، وتوظيف الفهم النفعي والمنقوص، في مشاريع أيديولوجية لا تقل افتعالاً وانتقائية في تصوّرها للشرق عن افتعال وانتقائية “المستشرقين” أنفسهم.
فينا، والكلام لإدوارد سعيد، من الغرب أكثر مما نعترف، وفي الغرب منّا أ كثر مما يعترف. والهويات الحديثة، في زمن ما بعد الكولونيالية، التي وحدّت العالم والتواريخ، مهجنة أو لا تكون. فالهجنة الثقافية هي السمة الرئيسة لعصرنا.
والمفارقة، وهي من عيار ثقيل، أن الإسلامي والقومي يبغضان الهجنة، ولا يعترفان بها، وأن شريكهما وحليفهما الرئيس هو غرب المركزية الأوروبية نفسه، الذي يعتقد أن لا شيء منّا فيه، ولا شيء منه فينا. وبهذا المعنى يضيق كل هؤلاء بالمغفّل المفيد إذا انفضحت لعبة النظر إليه بنصف عين، والاستفادة منه عن طريق خفة اليد لا غير. ثمة الكثير مما يصلح كوسائل إيضاح في مقالة لاحقة.
khaderhas1@hotmail.com