حول كتاب توماس بيكتي (Thomas Piketty Capital et ideologie 2019) نشرت مجلة Sciences Humaines في عدد يناير 2020 مقابلة معه. يربط في هذا الكتاب بين التاريخ الاقتصادي والتاريخ السياسي.
لم يخل تاريخ المجتمعات الإنسانية يوما من البحث عن عالم أكثر عدالة. الأيديولوجيات الدينية وتلك السياسية، وأيضا منذ الثورة الفرنسية وحتى أيامنا هذه، كانت تهدف في جوهرها استنهاض شكل من أشكال العدالة والمساواة. فالكائنات الإنسانية تحتاج لإعطاء المعنى لوجودها، خصوصا الاجتماعي: لذا يهتمون بحياة الآخرين ويرغبون بإيجاد سببٍ للوضعية التي عليها المجتمع.
في العادة لا وجود لنخبة تكتفي بامتلاك المزيد من المال أو السلطة أكثر من الآخرين، عشوائيا وبشكل علني ـ كما في لبنان مثلا. فالأمر يتطلب خطابا مفذلكا يشرح “عدالة” التنظيم الاجتماعي، أي اللامساواة السائدة. يتوجب على هذا الخطاب امتلاك الحد الأدنى من المعقولية وبالتالي سيجمع بين الصدق والخبث ويخلطهما معا. حاول الكاتب أن يأخذ هذه التبريرات على محمل الجد كي لا ينطلق من مبدأ استحالة تبرير اللامساواة سوى من مبدأ المصلحة.
يشير الكاتب إلى أنه خلال عمله اكتشف أن اللامساواة انخفضت خلال القرن العشرين. حصل ذلك في خضم عنف الحروب. أوجدت فرنسا ضريبة على الدخل، متأخرة عن جيرانها، في العام 1914، ليس لتمويل المدارس بل لتمويل الحرب. مع أن فرنسا كانت تزعم هوسها بالمساواة منذ الثورة الفرنسية.
صادف منذ بداية عمله مفارقة الخطاب الخبيث الذي لا يتحول إلى فعل سوى لمواجهة أزمة عنيفة. لذا واجه خطاب الأيديولوجيات التبريري مباشرة لفهم المسافة التي تبعد الخطابات عن الأفعال. الجديد لديه هو استحالة وضع اللامساواة في فرع بحثي، والخطابات والسياسة في فرع آخر: فكلاهما يتغذى الواحد من الآخر. ومبرر محاولة التقريب بين التاريخ الاقتصادي والتاريخ السياسي هو أن الأيديولوجيات السياسية هي وسيلة لمحاولة إعطاء معنى للاقتصاد، ولإيجاد شكل عادل للتنظيم الاقتصادي.
حاججت نخبة الجمهورية الفرنسية الثالثة أن فرنسا أصبحت مساواتية بفضل الثورة الفرنسية. كانت تريد الإيهام أن الثروة الخاصة كانت مجزأة في فرنسا أكثر بكثير من المملكة المتحدة. لكن عند مراجعة أرشيف الوراثة في فرنسا قبل العام 1914 سنجد تمركزا للملكية الصناعية والعقارية والمالية بقدر ما هي عليه عند الجيران. ازداد هذا التمركز طوال القرن التاسع عشر، ما يبرهن فشل الثورة الفرنسية فيما يتعلق بوعد إعادة توزيع الثروة.
تم الحفاظ على المساواة بشكل جزئي؛ لأن الامتيازات المالية للنبلاء ورجال الدين قد ألغيت. لكن فيما يتعلق بالباقي تم الاكتفاء باستبدالها بعبارات جديدة تحت مسمى الحق بالملكية. وتحولت أعمال السخرة إلى عمل بالأجرة: الفلاح في النظام القديم كان يعمل أياما بالمجان لصالح سيده، أما الآن فعليه أن يدفع له إيجارا زراعيا.
بهذه الشقلبة نمرّ من نظام لامساواتي إلى آخر: لم تعد اللامساواة مرتبطة بالمقام بل بالمُلْكية التي أصبحت مقدسة. ضريبة حقوق التوريث، حتى آخر القرن التاسع عشر، لم تكن أكثر من 1 في المئة من الثروة مهما كان مقدارها. لم تصبح الضريبة على التوريث تصاعدية سوى في العام 1901.
برهن القرن العشرين أنه يمكن زيادة الضريبة التصاعدية دون التسبب بالفوضى التي كانوا يلجأون إليها للحفاظ على المكتسبات. فتدنت اللامساواة بشكل كبير. أولى القوانين الاجتماعية أبصرت النور في السنوات 1900، حين أقرّ النواب في فرنسا قانون التقاعد للعمال والفلاحين عام 1910. وشهدت مرحلة ما بعد الحرب تطور الضمان الاجتماعي وتمويل أكبر للتربية والصحة. أيضا ضغطت الثورة البلشفية على نخب البلدان الرأسمالية كي تقبل السياسات الاجتماعية. فقبلوا بسياسات اجتماعية وموِّلت هذه السياسات بواسطة الضريبة على أقسام الدخل العليا. بلغت هذه الضريبة بين السنوات 1930 و1980 في المتوسط 80 في المئة في الولايات المتحدة و 89 في المئة في المملكة المتحدة و60 في المئة في فرنسا. النتيجة انخفاض اللامساواة وازدياد الحراك الاجتماعي ونمو راسخ وصلب.
لكن انهيار الاتحاد السوفياتي في 1989 ووصول “الريغانية” إلى السلطة أحدث انقلابا وتبددت الأوهام تجاه فكرة الاقتصاد العادل نفسها أو إمكانية تخطي الرأسمالية. الأمر الذي ستستغله مجموعات المحافظين المتشددين التي يطلق عليها الكاتب “التملكيين الجدد”.
روسيا والصين اليوم من أكثر الأمثلة الصارخة على فشل التجارب الشيوعية. لا يوجد في روسيا الحالية أي ضريبة تصاعدية على الدخل، إنها 13 في المئة للجميع. أما بالنسبة لضريبة التوريث فغير موجودة في روسيا والصين. هم يستغلون فشل الشيوعيين لتبرير غياب إعادة التوزيع.
أكد الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان أن تخفيض الضرائب على الأغنياء سيشجع على التجديد ويفعّل النمو. ووعد الأميركيين أن المزيد والمزيد منهم سيصبحون أثرياء وأن الاجور سترتفع أكثر من أي وقت مضى. فقام بخفض الضرائب عن الأكثر غنى، فأصبحت الضريبة على الشرائح الأعلى من الدخل حوالي 40 في المئة في السنوات 1980 ـ 1990.
اتبعت معظم دول أوروبا هذا المنحى الأيديولوجي. وبعد ذروة الـ 70 في المئة كضريبة دخل في النصف الأول من القرن العشرين، انخفضت إلى50 في المئة في الأعوام 1980 ـ 1990. وإذا كان لهذا الخطاب النيو ـ تملكي نوع من التماسك من الناحية النظرية، إلا أن التاريخ أثبت خطأه. فبعد ثلاثين عاما تبين أن النمو في أميركا أصبح أضعف مرتين مما كان عليه الوضع قبل ريغان: بين الأعوام 1950 ـ 1990 كان معدل النمو 2,2 في المئة في المتوسط، مقابل 1,1 في المئة بين الأعوام 1990 ـ 2020. يبدو أن الثروات العملاقة فشلت في جرّ النمو نحو الأعلى.
في الرؤية الريغانية يتم تقديم الأغنياء على أنهم كائنات عليا اغتنت بواسطة جدارتها وحدها وعملها الفذ وأفكارها اللامعة. إنها رؤيا شبه مَلَكية للاقتصاد. فبيل غايتس لم يخرج الحاسوب بمفرده في زاوية. إن آلاف البحاثة في المعلوماتية الأساسية ونظاما تربويا وبنى تحتية بحثية، هي التي تسمح بنجاح البعض. المُلكية دائما اجتماعية: فهي تتعلق بنظام عام يسمح بتراكم المعرفة والخبرة عبر القرون. وهذا لا يعني أن بيل غايتس ومن مثله لا يملكون أي استحقاق. لكن لا ينبغي تقديس الشخص الفردي. يبدو أن نجاح النمو يعود بجزء كبير منه إلى خدمات قاعدية وهي التربية والصحة.
يشرح إميل بوتمي(Émile Boutmy) مؤسس معهد العلوم السياسية في فرنسا، أنه كان على الطبقات العليا أن تعمل قدراتها الفكرية كي تتمكن من الاحتفاظ بالهيمنة السياسية فوجدت أحقية الأكثر قدرة. باختصار، وبفضل غريزة البقاء، تخلت الطبقات العليا عن تبطلها واخترعت فضيلة الاستحقاق كي تتجنب حرمانها من الحقوق التي تعتبرها مشروعة. فاستمرت الامتيازات الاجتماعية تحت مسمى الجدارة والمواهب الشخصية. وحجة الجدارة والاستحقاق هذه تشكل أحد اعمدة أيديولوجيا النيو ـ متملكين حاليا.
هدف الكاتب فتح نقاش حول إعادة توزيع الدخل بشكل عادل. فبفضل الضرائب التصاعدية يمكن إعادة توزيع الملكية وتأمين التربية ومتابعة النمو. بالطبع يمتنع البعض عن متابع النقاش عندما يسمعون بنسبة ضرائب 70 و80 و90 في المئة. إنها ردود فعل وبائية. يجب إعادة التفكير بهذه الأمور.
كثر يجهلون نجاحات القرن العشرين في مسألة خفض اللامساواة: هناك فقدان متعمد للذاكرة التاريخية لهذه العقود.
وهذا النقاش غائب عن بلادنا إلا فيما ندر.