لا يستدعي الأمر مهارة في التحليل للقول: إن اعتراف ترامب بسيادة إسرائيل على الجولان المُحتل، في جانب منه، يمثل دعماً لنتانياهو في معركة انتخابية حاسمة، بعد أسبوعين، وأن هذا الدعم وثيق الصلة برهان الاثنين على فترة ما بعد الانتخابات، وإعادة هندسة الخرائط، والتحالفات، والأسواق، في الشرق الأوسط، في إطار ما يُعرف “بصفقة القرن“، وأن هذا الدعم يضيف مزيداً من الحطب إلى حرائق الشرط الأوسط.
ومع ذلك، ثمة ما هو أبعد من الرهانات الشخصية للأوّل والثاني. وفي هذا المعنى نود التركيز على أمرين: أولاً، علاقة الفعل الترامبي بانتقال أميركا من طور إلى آخر، وانعكاس هذا وذاك على السلام والأمن الدوليين. وثانياً، رهان هندسة الخرائط والتحالفات، وتداعياته على حاضر إسرائيل ومستقبلها، وعلى الشرق الأوسط، عموماً.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بالفعل الترامبي فإن نقطة البداية أن الإمبراطورية الأميركية صعدت إلى قمة العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وتزعّمت “العالم الحر“، ومارست دور الشرطي في مناطق مختلفة. وما يصدق على إمبراطوريات سبقت يصدق عليها، أيضاً. فما من إمبراطورية وُلدت إلا بالسيف، وما من إمبراطورية ماتت إلا به. ولكن حياة الإمبراطورية بين هذين الحدين لا تعتمد على السيف بل على السلام الإمبراطوري، الذي لا يتحقق إلا بالتوازنات والتسويات.
وبهذا المعنى كانت زعامة الولايات المتحدة “للعالم الحر“ قصة نجاح مدهشة، خاصة في أوروبا الغربية، واليابان. ولكن النفط وإسرائيل في الشرق الأوسط، ورهاب الشيوعية في جنوب شرقي آسيا، عوامل أسهمت في عرقلة تعميم السلام الأميركي في هاتين المنطقتين. والمفارقة، في هذا الشأن، أن لحظة انتصار الإمبراطورية، بعد سقوط جدار برلين، كانت أيضاً لحظة فقدانها للبوصلة، فقد فشلت في إنشاء ما يستدعي عالم ما بعد الحرب الباردة من توازنات وتسويات. ودليل الفشل سلسلة حروب متلاحقة لم تتوقف حتى الآن. وفي يوم ما، ربما يُؤرَّخ لبداية الانهيار بلحظة هروب الأميركيين عن سطح السفارة في سايغون 1975.
تُغرب شمس الإمبراطوريات، عموماً، عندما تتسع المساحة، وخطوط الإمداد، بين المركز و“المستعمرات“ و“المحميات“، التي يستدعي الحفاظ عليها وجود حاميات كبيرة، وعندما تصبح ضرورة الحفاظ عليها أقل مردوداً وأكثر كلفة، وعندما يصبح العنف استراتيجية وحيدة لضمان السلام الإمبراطوري. وبهذا نُفسِّر سلسلة الحروب المتلاحقة بعد الحرب الباردة، فقد كانت وما زالت، محاولة يائسة للحيلولة دون ما لاح من تباشر التدهور في الأفق.
والمُلاحظ رعونة متزايدة من جانب الأميركيين، بعد الحرب الباردة، إزاء الأمم المتحدة، والقانون الدولي، والشرعية الدولية، وحتى “اليونسكو” المسكينة. وبقدر ما يتعلّق الأمر بالعرب، مثلاً، غالباً ما امتزجت الرعونة بالاحتقار. وهذا قليل الأهمية إذا ما قورن بحقيقة أن الرعونة زعزعت أركان السلام الأميركي في أوروبا نفسها، وأن توازنات وتسويات ما بعد الحرب الثانية أصبحت معرّضة للانهيار. وفي هذا المعنى ترد مسألة الناتو، ومعاهدات الدفاع والحد من الأسلحة النووية، وقضايا التمويل، والتجارة، والمناخ..الخ.
وفي هذا المعنى، أيضاً، نُفسِّر الترامبية بوصفها تعبيراً عن عجز المركز عن الإنفاق على المشروع الإمبراطوري، ومحاولة للتعويض بفرض “الخاوة“ على العالم، إضافة إلى يأس من إمكانية إحلال سلام إمبراطوري، أو حتى جدوى التفكير فيه، في ما يبدو وقفة إمبراطورية أخيرة تسبق الانهيار.
ومع ذلك، لا ينبغي القفز إلى نتائج سريعة، والتفكير في أشياء من نوع أن الانهيار غداً، أو أن غياب ترامب عن المشهد سيغيّر الواقع الإمبراطوري بطريقة درامية. فالترامبية، بما هي جملة من التصوّرات والحلول والأوهام، سبقت ترامب، وستبقى بعده، لن تغادر المشهد السياسي الأميركي في وقت قريب. وليس صحيحاً أن ترامب، النرجسي الجاهل، هبط من كوكب آخر، فهو جزء من حقيقة أميركا، أيضاً.
ويبقى، في هذا الشأن، دلالة ينبغي ألا تغيب عن الذهن. فالإمبراطورية تصنع العالم على صورتها، وهي دائماً ذات “رسالة“. هذا لا يعني أن الإمبراطوريات الرومانية، والعربية، والعثمانية، والروسية، والبريطانية، وغيرها، حاولت إنشاء نماذج مصغّرة للمركز في “المستعمرات“ و“المحميات“، بل يعني أنها أنشأت دائماً رواية خاصة لتبرير قدرها المتجلي، وتفسير الهيمنة بمفردات ثقافية.
وفي سياق كهذا تموضعت حرية السوق، معطوفة على الديمقراطية الليبرالية، كنظام للحكم، في الرواية الأميركية لتفسير وتبرير الصعود إلى قمة العالم، ومحاربة الخصوم، أو تطويعهم، استناداً إلى قيم مُستمدة من أشياء كهذه. لذا، نفهم بشكل أفضل، وبأثر رجعي، لماذا احتلت مسألة حقوق الإنسان، والتعددية والديمقراطية، مكانة مركزية في خطاب الإمبراطورية الأميركية في زمن الحرب الباردة، مثلاً، كما نفهم لماذا نشأت الأمم المتحدة، وتبلورت ملامح ومركزية القانون الدولي والمعاهدات الدولية، وتحوّل مجلس الأمن إلى حارس للأمن في العالم.
ولعل في هذا ما يُعمّق من فهمنا للترامبية بوصفها ظاهرة تتجاوز الشخص نفسه، أيضاً. فالاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان، وبالقدس عاصمة لها، وكلتاهما محتلة في عرف الأمم المتحدة، ينتمي إلى، ويُعبّر عن، تحوّل وانتقال رواية الإمبراطورية عن نفسها وعن العالم، من طور إلى آخر.
الإمبراطورية في وقفتها الأخيرة: في زمن فرض “الخاوة“، وإحلال السلام الإمبراطوري بالإكراه، لا بالتسوية، لا تحتاج بضاعة الأمم المتحدة، والشرعية، ولا الديمقراطية وحقوق الإنسان. فالمخيال السياسي لأميركا الترامبية يتجلى في وهم واستيهام أن العالم بناية سكنية هائلة يستدعي التعامل معه ومع قاطنيه تجنّب بعض السكّان اتقاء لشرهم، وطرد البعض بالقوّة، أو تغيير عقد الإيجار، وفرض بدلات إيجار أعلى على البعض. والمفارقة أن مَنْ يفعل هذا تاجر عقارات، فعلاً، وأن السياسة بوصفها ترجمة لسوق العقارات لا تشكو ندرة المؤيدين، والمستثمرين، والسكّان الجدد.
khaderhas1@hotmail.com
* كاتب فلسطيني