في حرب الصور والعقول للصراع غير المتكافئ بين الإسرائيليين والفلسطينيين تبين أنه لا يمكن لأحد أن يربح أو يخسر كما في الحروب التقليدية وأن معارك العالم الافتراضي ستتواصل مع تراكم الكراهيات والأحقاد.
تغيرت طبيعة الصراعات والحروب وبعدما هيمنت الحرب الكلاسيكية طويلا، أتت الحروب غير المتكافئة بين الجيوش النظامية والحركات المسلحة لتمنع الحسم الواضح وبروز المنتصر الحقيقي. وعلى خلفية المشهد في المواجهات الأخيرة من القدس إلى غزة، خاض الطرفان حربا ضروسا على شبكات التواصل الاجتماعي وعبر وسائل الإعلام المرئي والمكتوب. وكانت السوشيال ميديا مسرحا للمواجهة وراهن الجانب الفلسطيني والعربي على تغيير إيجابي في مواقف الرأي العام الغربي نتيجة تأثير الصور الصادمة. لكن هذا التأثير بقي نسبيا لأن تغيير حركة حماس وحلفائها لطبيعة المواجهة في “هبة القدس” من انتفاضة سلمية إلى قصف صاروخي انطلاقا من غزة (وما تبعها من رد إسرائيلي عنيف) أعاد الاستقطاب إلى الرأي العام الغربي الذي يتفهم غالبا الأطروحات الإسرائيلية ويدين تطرف حركات فلسطينية مرتبطة بأجندات خارجية.
ولذلك فإن الجدل حول تصرف إدارة “فيسبوك” أو حول أهمية تعميم مشاهد معاناة المدنيين والقمع المفرط والتدمير، لن يغير مواقف دول وشعوب في العمق، بل تتطلب المواجهات الإعلامية المصداقية في نقل الأخبار وفِي ضرورة بلورة سردية متماسكة مرتبطة بواقعية سياسية وليس بمنطق أيديولوجي عفا عنه الزمن، خاصة أن ربط القضية الفلسطينية بحسابات قوى إقليمية غير عربية أبرزها إيران لن يقود إلا إلى المزيد من تأجيج الصراع لغير صالح الفلسطينيين، ويمنح الجانب الإسرائيلي وخاصة جناحه المتطرف الذريعة للمزيد من الإنكار للحق الفلسطيني.
خلال مواجهات القدس والضفة الغربية والداخل الإسرائيلي وحرب غزة 2021 احتدم الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وخاض الطرفان حربا من دون هوادة على شبكات التواصل الاجتماعي (فيسبوك وتويتر ويوتيوب وتيك توك وإنستغرام وغيرها) عبر صور ومقاطع فيديو بعضها مضلل أو قديم. وفي الحروب المعاصرة مع الثورة الرقمية والحرب الإلكترونية، هناك بعض القيود القانونية ولكن مساحات الحرية نقلت الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني إلى العالم الافتراضي وأصبح هذا الصراع أكثر حدة مع تطور استخدامات الإنترنت وأجهزة الهاتف الذكية.
يعد السجال حول الشعارات والتعابير من الأشكال الأخرى للمعارك الإعلامية، إذ قامت وكالات الأنباء العالمية ووسائل الإعلام في الغرب بتقديم الحرب الأخيرة على أنها “طفرة عنف جديدة” فيما ركز أنصار الفلسطينيين على أن المعركة هي من أجل “العدل والحرية”. أما الصورة الرائجة في الغرب على طائفية الصراع الذي يدور بين المسلمين الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين، فقد تراجعت عند بعض العينات التي تؤيد حركة تحرر الشعب الفلسطيني ضد “شكل جديد من الاستعمار”. لكن قيادة حركة حماس الإسلامية الطابع للعمليات العسكرية، وربطها بالحرس الثوري الإيراني الذي يدعو إلى زوال إسرائيل، لا يساعدان على تحولات جدية في الرأي العام الغربي.
بالطبع، سلطت قضية “حي الشيخ جراح” الأضواء على البعد الإنساني والقانوني للحقوق الفلسطينية وأثر ذلك على الرأي العام العالمي ومن خلال مشاهير أو نجوم من أصول عربية أو إسلامية أو من متعاطفين مع القضية الفلسطينية أسهموا بإبراز سردية فلسطينية عن المظلومية تقابل الدعاية الإسرائيلية التاريخية.
تعددت أشكال معارك التواصل الاجتماعي إذ أن هناك إحصاء متداولا يقول بوجود 4 مليارات هاشتاغ مؤيد لفلسطين الحرة، وهذا الرقم خيالي لكنه لا ينفي اتساع الدعم عالميا، لكن مدى التأثير على توجهات الرأي العام من الولايات المتحدة إلى أوروبا وكندا وأستراليا لا يرتبط فقط بمشاهد آتية من قلب الحدث، بل بمعطيات متعددة ومنها ما يتصل بتطورات داخل البلدان والمنظومات نفسها.
إذا أخذنا الولايات المتحدة نجد أن الجيل الصاعد لا يقرأ بغالبيته الصحف الكبرى ولا يشاهد القنوات مثل “سي.أن.أن” أو “فوكس نيوز”، بل يتابع الأخبار عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فيشاهد مثلا مباشرة ما يجري على الأرض في المسجد الأقصى وفي أحياء القدس. وبما أن هناك انقساما أميركيا عميقا بين الإنجيليين والمؤيدين لإسرائيل من جهة وفريق من الملونين واليساريين مؤيد للفلسطينيين من جهة أخرى، انعكس ذلك على الرواية الإسرائيلية التي كانت سائدة وأخذت تبرز مسألة حقوق الفلسطينيين عند الشباب والمكونات من الأقليات العرقية. وعبر تيار بيرني ساندرز واليسار في الحزب الديمقراطي وبعض ممثلي الطبقة الوسطى فيه، حصل تحول ضد السياسة الإسرائيلية لم يؤثر بعمق على خيارات إدارة بايدن المؤيدة لإسرائيل، لكنه دفع الرئيس لممارسة ضغوط على نتنياهو من أجل التوصل إلى وقف إطلاق النار والحؤول دون المعركة البرية. بيد أنه بالإمكان القول إن التحول المحدود في الرأي العام الأميركي لم يتأت من الصور الصادمة أو من معركة وسائل التواصل في المقام الأول، بل كان انعكاسا للانقسام الذي ترسخ خلال حقبة دونالد ترامب وتمت ترجمته في أوائل عهد بايدن.
أما في أوروبا الغربية وشمال أوروبا، فقد طغى حضور المسلمين على حركات دعم الفلسطينيين، ولم يعد الشرق الأوسط من أولويات اهتمام اليسار الأوروبي المنكب على قضاياه الداخلية، أما اليمين المتشدد الذي كان متهما بالعداء للسامية في فترات سابقة، فقد حصلت فيه تحولات لصالح إسرائيل خاصة عند حزب مارين لوبان في فرنسا وأحزاب مماثلة من المجر إلى ألمانيا. وهكذا في الإجمال لم يكن التحول كبيرا عند الرأي العام الأوروبي حيث ساد خطاب وسطي يعتبر أن الصراع الحالي هو نتيجة الأزمة السياسية العميقة في إسرائيل وداخل الحركة الفلسطينية، وصعود الهوية القومية والدينية التي تهيمن على المعسكرين.
في الخلاصة، تبين أيضا في حرب الصور والعقول أنه في الصراع غير المتكافئ بين الإسرائيليين والفلسطينيين، لا يمكن لأحد أن يربح أو يخسر كما في الحروب التقليدية وأن معارك العالم الافتراضي ستتواصل كما تراكم الكراهيات والأحقاد ما دامت العدالة والإنسانية ليستا على الموعد في الشرق الأوسط المأزوم.