لم يكفّ أمير عن الكلام في الطريق، بينما كان زياد يقود السيارة عائدًا بنا نحو إسطنبول من جديد.
كان كلامه مزيجًا من السعادة لتحقيق نظريته في وجود كانديد في القسطنطينية كما توقع، وخيبة الأمل لكونه تأخر شهرًا واحدًا، بعد أكثر من مائتي عام قضاها كانديد يزرع حديقته. مجرد شهر واحد، لو كنا تعجلنا السفر خلاله، أو إذا ما اختصرنا توقيت طلب تأشيرات السفر، أو كان موظفو السجل المدني، أو السفارة التركية أكثر همّة، لكنا لحقنا بـ “كانديد” وأصحابه قبل أن يرحلوا إلى بانكوك. ولكن لا بأس، وإنما علينا الآن أن نستخرج تأشيرات من جديد للذهاب إلى تايلاند. طمأننا زياد بأنه يعرف صديقًا لبنانيًّا يعمل بالتجارة، ويتعامل مع السفارة، ويستطيع أن يساعدنا بكل تأكيد.
تبدى نهر البوسفور يبرق بالأضواء بينما كنا نعبره بالسيارة، فوق الجسر المرتفع، في منظر خلاب.
أصر زياد أن نبيت الليلة في منزله. فكانت فرصة للقاء زوجته الطيبة “مايا”. لبثت المرأة مستيقظة في انتظارنا، رغم يوم العمل الطويل الذي أتمّته. لقيتنا بفستان أزرق طويل، مشغولة صدريته بخيوط ذهبية، فهمنا منها أنه من التراث الشعبي اللبناني. كانت امرأة ضئيلة الحجم مقارنة بزوجها العملاق، رقيقة الحديث، دافئة المشاعر، لم تبدِ أيّ اندهاش حين أعلمها أمير عن سر زيارتنا لإسطنبول، وكأنه أمر معتاد أن يبحث الناس عن شخصيات روائية تاريخية في شتى بقاع الأرض، بل وأن يجدوها أيضًا.
اندهشت حين ألح زياد على زوجته في أن يذهبا معنا إلى بانكوك، ولو في عطلة سياحية. ولكنها اعتذرت بسبب عملها الذي يصعب أن تأخذ إجازة منه في مثل تلك الفترة الوجيزة. فطلب منها بدوره أن تسمح له بأن يذهب هو منفردًا لبضعة أيام على سبيل السفر والترفيه، وللبحث عن كانديد، فوافقت هي على الرغم منها.
مكثت معظم الليل متيقظًا، أدوُّن كل ما كان. كنت قد قررت أن أجلب معي من منزلي كراسا أزرق الغلاف، كانت قد أهدتني إياه ثريا قبل أعوام، حتى أدوّن في أوراقه كل تفاصيل الرحلة، تحسبًا لأيّ خدعة أو احتيال من جانب أمير، مثلما حدث حين تلاقينا بالإسكندرية المرة الأولى. كما دفعتني الحيطة من ضعف ذاكرتي، وقد تقدم بي العمر، إلى أن أسجل التفاصيل أولًا بأوّل، قبل أن تطمسها الأيام المتعاقبة. وجدتني أدوّن في أول صفحة عن تناسي إحضار عصاي، التي كنت أتوكأ عليها قبل أيام.
في صباح اليوم التالي انتهينا من الحصول على التأشيرات المطلوبة، وحجزنا ثلاثة مقاعد على أوّل طائرة متجهة إلى بانكوك بعد ساعات.
رحلة طويلة وشاقة للغاية، ضاعف من صعوبتها، سهري للكتابة في الليلة السابقة. توقفنا طويلًا في مطار دبي، قبل أن نستأنف الطيران. المطار هناك ضخم ونظيف، مكتظ بالهنود والباكستانيين، ومليء بالمغريات. ولكنني لم أبتع شيئًا، لأنني لا أمتلك نقودًا للرفاهية، ورفضت دعوة أمير إلى أن يبتاع لنا زجاجة كحول نترف بواسطتها خلال رحلتنا الطويلة. أما زياد فابتاع صندوقًا من السيجار الكوبي أدهشه رخص ثمنه.
ما إن خرجنا من مبنى المطار، حتى لفحتنا درجة من الحرارة ورطوبة في الجو لا أتذكر أني قد اختبرت مثيلًا لهما بطول أيامي. منذ لحظة هبوط الطائرة ببانكوك، ملأت الجو رائحة توابل غريبة لاحقتنا في كل مكان بالمدينة العملاقة. اخترنا الإقامة بفندق قريب من المعبد الكبير ـ أو القصر العظيم ـ على ضفة النهر حيث كان يقع قصر الملك إلى وقت قريب، قبل أن يصير مبنى حكوميًّا مخصصًا للمقابلات الرسمية. آملنا أن نوفق في تحقيق مبتغانا بالإقامة إلى جانب المعبد الأشهر في بانكوك، حيث يتوافد الآلاف إليه، وخاصة الغرباء من السواح مثل كانديد وذويه. على الأقل كان هذا ما توقعناه.
في الطريق إلى الفندق، لاحظت تكدس المرور، والمترو يمضي فوق قضبان معلقة أعلى الشوارع بارتفاع نحو ثلاثة طوابق أو أربعة، يصعد إليها البشر عبر سلالم عند كل محطة. وتواترت العشرات، بل المئات من عربات الـ « توك توك » الملونة بألوان زاهية مبهرة تملأ الشوارع. سائق التاكسي بدوره، والذي اتخذ الجانب الأيمن من السيارة، سحب من أمام المقود بضعة أوراق أعطاها إلى زياد، الذي كان جالسًا بجواره في المقعد الأمامي. وهو بدوره دفع بها إلينا وهو يضحك، فإذا بها صور خليعة لسيدات عرايا. وعلى الفور بادرنا السائق وقال بإنجليزية مهترئة:
“قد نذهب إلى هناك الآن، أو يأتين إليكم بالفندق، كما تشاؤون!”
شكرته بأدب شديد، حتى أقطع الطريق أمام احتدام أمير المتوقع. وهو بدوره لم يلحّ، بل أخذ مني الصور بهدوء وأدب، وأومأ برأسه شاكرًا، ولم يعقِّب، وهو يصفُّها أمامه فوق لوحة القيادة من جديد.
كانت الزيارة الثانية، أو ربما الثالثة لزياد، الذي اتخذ من جديد موقع المرشد السياحي، ولكنّ الناس هنا كانوا يتحدثون الإنجليزية على نحو مقبول. بوغتنا بعشرات الأشخاص، يستوقفوننا وهم يوزعون اللافتات الدعائية لمطاعم، ومزارات، بل وحانات، وبيوت دعارة، حتى بدأوا يلاحقوننا. لم نلتفت إلى أيّ منهم في أول الأمر، على أي حال، ولكن بعضهم تابعونا بإصرار سخيف. لاحظت زياد وقد تهلل وجهه لمَّا بدأت صور النساء والفتيات العرايا تهاجمنا في إلحاح فج. كان رد فعل أمير صارمًا إذ قال:
“تذكر يا زياد سبب مجيئنا لبانكوك! لو شئت تستطيع أن تتركنا هنا، ثم تلقانا فيما بعد على متن طائرة العودة!”
لكنني بالطبع لم أرتح لكلماته القاسية تلك، فسارعت بالقول:
“لا عليك يا زياد، فنحن جئنا إلى هنا معًا، وسنبقى كذلك إلى أن نرحل سويةً..”
ثم التفتّ نحو أمير وقلت معاتبًا:
“لماذا تحتد هكذا يا بنيَّ؟ فكل ما جناه زياد هو انفعاله بكل ذاك الإلحاح من جانبهم في طرح بضاعتهم، ولكنه لم يحفزهم أبدًا، أو حتى يتجاوب مع أيّ منهم!”
أما زياد فلم يلق بالًا لكلام أمير، وكان لعابه ما يزال يسيل بعد كل صورة تعرض عليه، ولكن ـ للحق ـ دونما أن يجاري أحدهم فيما كانوا يطرحونه علينا.
في الفندق، اتخذنا غرفتين متجاورتين، إذ بكل غرفة سريران صغيران متجاوران، لا يمكن لثلاثة رجال أن يتشاركوا فيها. فبقيت مع أمير في واحدة، واتخذ زياد الثانية.
تلك الرائحة، ما تزال تحوم حولنا، فنظرت إلى أمير وقلت:
“أنا جوعان!”
فأجاب بدوره فرحًا، كأنه وجد عذرًا، لشعوره بالتعب والإعياء:
“وأنا أيضًا، هيا بنا نأت بزياد، فنذهب لنأكل في أي مكان هنا.”
على بعد خطوات من الفندق وجدنا السيدات والرجال يفترشون الأرصفة بمواقد ومقالي، تغلي من فوقها أطعمة مختلفة الأشكال والألوان، وإن لم أتمكن من التعرف عليها بسهولة. نظرنا نحو زياد مستفهمين، فقال بثقة:
“لعله من الأفضل لنا أن نذهب إلى مطعم، به قائمة طعام مكتوبة. على أي حال، فالطعام هنا رخيص جدًا..”
في الشارع لاحظت وجود منصات حجرية، مثل محطات انتظار الحافلات العامة، مغطاة بالزجاج عند سقفها وجانبيها، وفي وسطها رف؛ هو نتوء مستطيل ملتصق بالحائط الخلفي، يتربع فوقه تمثال لـ “بوذا”، هادئ الملامح ـ أو هادئة فالتمثال قد تخاله لذكر أو لأنثى، أو للإثنين معًا ـ تعلو وجه شبه ابتسامة، وفوق رأسه تاج من عدة أدوار، وبجانب التمثال أطباق من الفاكهة أو بقايا الطعام. سألت زياد وعرفت أنه معبد صغير للمارة. وفعلًا، لاحظت توقف العديد من أهل البلد ـ وخاصة النساء ـ داخل تلك المنصات الصامتة، يسجدون قليلًا أمام التمثال ويتركون طعامًا ليأكل منه الإله أو ليقتات به الفقراء فيما بعد. شاهدتُ العديد من هذه المعابد الصغيرة، متناثرة فوق شتى الأرصفة، أمام المساكن، والمحال التجارية، والمطاعم، بل والحانات وبيوت الدعارة المنتشرة في كل مكان.
دلفنا إلى مطعم واسع، به عدة حجرات، ذي حوائط يغلب عليها اللون الأحمر. كانت تجلس في الصالة المتوسطة منه امرأة ترتدي الزي الشعبي الأزرق اللامع المشغول بخيوط ذهبية، تعزف على آلة مثل القيثارة، وتغني. لاحظت أن الموسيقى هناك ـ مثل موسيقانا ـ بها نغمات ربعية الوزن، وليست فقط كاملة أو نصفية كالموسيقى في شتى أنحاء العالم، وكنت قد تعلمت ذلك عند محاولاتي الفاشلة في عزف آلة العود قبل أعوام. أكلنا دجاجا منقوعا في مرق توابل حريفة، وأرز، وفاكهة، وبالفعل كان الثمن بخسًا مقارنة بأسعار الطعام في إسطنبول.
تمشينا بعد الامتلاء في شوارع وسط المدينة. مررنا بسوق شهير هناك، يبيع الناس فيه كل ما يخطر لك من الملابس وتوابعها من النظارات وساعات اليد والكوفيات المعدودة من أشهر العلامات التجارية العالمية بأسعار زهيدة. فهمت من زياد أنها برمتها مزيفة، وإن كان السوق المزوّر ذاك مزارًا يأتيه السياح من شتى بقاع الأرض لابتياع بضائع منقولة عن أصولها بدقة متناهية. وعند نهاية السوق لاحظت قيام معبد صغير لبوذا، تساءلت في نفسي ساخرًا إن كان أصليا أم مغشوشا.
ولكن من أعجب ما رأيت في تجوالنا سلسلةٌ من أحواض زجاجية ممتلئة بالماء تسبح فيها أسماك ملونة دقيقة. وأمام كل حوض منها مقعد عال ـ مثل محال مسح الأحذية عندنا ـ تجلس إليه بعد أن تضع ساقيك في حوض المياه، ليتغذى السمك الصغير بجلد قدميك وساقيك الميت، فيعيد لرجليك الصحة والنشاط، في مقابل بضعة قروش. لم أجرؤ أن أخوض التجربة، وإن استمتعت بضحك أمير والأسماك تنقر جلده فتدغدغه.
من جديد مكثت أدوّن في كراستي الزرقاء، كل الأحداث التي مرت بنا، حتى غلبني النعاس. في الصباح الباكر أيقظني أمير، ثم انطلق كالسهم إلى غرفة زياد ليفيقه، ولكنه عاد وهو يغلي غاضبًا. سألته فأجاب:
“الوسخ!.. بات في حضن إحدى المومسات!”
لم ندر متى تسنى له أن يفعلها، فقد عدنا منهكين عند منتصف الليل، بعد عناء السفر، وتناول العشاء، ورحلة التجول في السوق. أعتقد أنني رحت في النوم حتى قبل أن أطفئ المصباح الموضوع فوق المنضدة التي توسطت سريرينا.
جن جنون أمير، فبدأ يغمغم بكلمات غامضة، في تتابع مريب، لم أفقه منها شيئًا. ولكني أدركت أنه عازم على الخروج فورًا دون انتظار زياد. وضع ثيابه في عجلة، وحثني أن أحذو حذوه. تأكدت أولًا من أنه ابتلع أقراص الدواء اليومية، قبل أن ننطلق نحو المعبد الكبير لنبحث عن كانديد هناك.
عند البوابة الرئيسية للمعبد، تجمع عشرات السائحين حول فيل ضخم، نعم، فيل حقيقي، تعلو ظهره مائدة خشبية مزخرفة الجنبات، ومفارش حريرية زاهية الألوان مشغولة بقطع الزجاج والمعدن البراقة التي تتدلى من جوانبها، ومن فوق رأس الفيل العظيم. وما إن عبرنا البوابة الرئيسية، حتى وجدنا أنفسنا أمام ساحة مهولة، تغطيها أحواض الزهور والنجيل الأخضر، وتتخللها ممرات من الزلط الملون المرصوص في أشكال بديعة. ولكنني أدركت استحالة مهمتنا حينما تطلعت نحو مئات، بل آلاف السائحين، الآتين من شتى بقاع الأرض لزيارة الصرح الأثري الرائع. مشينا بين طوابير الزوار في نظام وسكون احترامًا لهيبة المكان. دلفنا من ساحة إلى ساحة، وما بين صفوف وصفوف لتماثيل الإله المعبود بوذا؛ مغطاة حينًا بقشرة ذهبية، وأخرى من الفسيفساء الملون، وثالثة خشبية مشغولة، إلى أن وصلنا إلى داخل المعبد الرئيسي، حيث التمثال الذهبي المهول القابع عند نهايته، والورود والأزهار مفروشة حول قاعدته، وعشرات المتعبّدين جاثمون في خشوع أمامه.
بجوار الحائط المقابل، وقف واحد من الرهبان البوذيين بزيٍّ أحمر قرمزي ومن تحته رداء أصفر، يتطلع برأسه الحليق فيتابع الزوار ويستعد للإجابة عن تساؤلاتهم. اقتربنا منه، فحيّانا بابتسامة هادئة، وإيماءة مهذبة، فتشجع أمير وسأله:
“نحن نبحث عن شاب فرنسي أو ألماني، ربما تكون قابلته هنا، بصحبة زوجته وأخيها وشيخ علاّمة يطرح في العادة العديد من الأسئلة..”
فقاطعنا الراهب مبتسمًا:
“أتقصد كانديد؟”
فأسرع أمير وأجاب:
“نعم هو.. كانديد، أين أستطيع أن أجده؟”
فتطلع نحوه الراهب بسحنته النحاسية التي خطَّتها تجاعيد الزمن، ورد بهدوء:
“كان يأتي هنا كل يوم ولكنه وجد المكان ممتلئًا بالسائحين كما ترى، فطلب مشورتي فنصحته بالذهاب إلى معبد ’واط فو‘ أو ’بوذا المستلقِي‘، هل تعرف مكانه؟”
فأجابه أمير:
“سوف نجده، سوف نجده. لك جزيل الشكر!”
وسرعان ما صرنا قابعين داخل صومعة مركبة “توك توك” في طريقنا إلى معبد “واط فو”.
عند المدخل فحص أمير المكان مستطلعًا، ومع ذلك اندفعنا وسط ركاب الزوار، عشرات بل مئات من السائحين، أو أهل البلد المتعبدين. لكن الأعداد هنا كانت أقل منها في المعبد الكبير. صعدنا سلالم عدة، حتى دلفنا إلى داخل المعبد. طالعنا تمثال ضخم لبوذا المذهب، وهو مستلق بالفعل يستند إلى مرفقه الأيمن يتطلع نحونا بفضول. وجدنا عددًا من الرهبان يرتدون أردية بلون الزعفران وهم متجمعون في أحد الأركان، فتوجهنا نحوهم، وسرعان ما سألهم أمير مباشرة عن كانديد. فأجاب شيخ من بينهم بصوت رخيم:
“كانديد يأتي هنا في الرابعة من بعد ظهر كل يوم! تستطيعان ضبط ساعتيكما على موعد مجيئه!”
نظر أمير نحوي والفرحة تغمره، وتكاد أن تقتلعه من الأرض ليسبح في الفضاء من فرط النشوة.
كانت الساعة بعدها تشير إلى الثانية عشرة وبضع دقائق، فترجلنا إلى خارج المعبد باحثين عن مطعم، إذ لم نأكل شيئًا منذ عشائنا بالأمس. تشجعنا هذه المرة وابتعنا من الباعة الجائلين المفترشين الطريق، شطائر لحم مقدّد، وسلطانيتين من الحساء الساخن. لكن الأمر لم يستغرق ساعة بالكاد، ومازال أمامنا نحو ساعتين حتى يحين موعدنا للقاء كانديد. هممت بأن أقول شيئًا، ولكن في لحظة أشار أمير إلى عربة “توك توك” وكأنه قرأ أفكاري، أشار للرجل أن يتجه إلى الفندق وهو يقول لي:
“لا ينبغي أن يفوت زياد هذا المشهد، فقد جاء من إسطنبول من أجل هذا.”
في بهو الفندق وجدنا زياد جالسًا بانتظارنا. لم يبد تأففه من انصرافنا عنه طوال اليوم هكذا، ولم يسأل حتى إلى أين ذهبنا، تجنبًا ـ فيما اعتقدتُ ـ لاستجواب أمير له عن البغيّ التي أمضى معها ليلته. ولكني مع ذلك شرحت له تفاصيل يومنا، فتهلل وجهه حين علم بموعدنا في الرابعة للقاء كانديد أخيرًا.
بضع دقائق بعد الساعة الثالثة، وجدت ثلاثتنا عند بوابة المعبد. قابلنا الراهب الشيخ، بوجهه الذي لوحته الشمس طويلًا، وهو مبتسمٌ عن بعد. نظر إلى ساعة يده، وبهدوء هز رأسه نافيًا أن يكون كانديد قد حضر بعد.
مكثنا نتطلع في وجوه الزوار نبحث بينهم عن كانديد وليدي كوناجوند، والبروفيسور بانجلوس، نحاول أن نتنبأ ما سيكون عليه شكلهم، ومن تراه سيتعرف عليهم منّا أولًا.
عشرات ـ بل ومئات الزوار دخلوا وخرجوا، والراهب ما يزال ينفي وصول كانديد.
واقترب مؤشر الساعة من الرابعة. وعند تمامها، دلفت جماعة من السائحين من البوابة الرئيسية، فخفق قلبي، وتطلعنا نحو الشيخ الراهب، ولكنه هز رأسه من جديد، وأنكر أن يكون كانديد وصحبه بينهم. مرت الدقائق بطيئة، وعيوننا تتفحص الزوار، وتراقب الراهب، في انتظار الإشارة المرجوة.
وفي الخامسة توجهنا نحو الشيخ المبتسم، الذي أسقط في يده. تلقانا مطأطئ الرأس، وأعلمنا معتذرًا بكلمات إنجليزية قليلة معوجّة المخارج، بأن ذاك كان أول يوم يتغيب فيه كانديد. بأدبٍ جم، رجانا الراهب أن نعاود المجيء في الرابعة من بعد ظهر الغد.
خارج المعبد، صار التوتر يعصف بأمير، فبات متلعثمًا، حزيناً. بدأ سيل الكلمات المغمغمة يترادف، وصار أمير يكبس فمه بباطن كفه ليسد فيضانها خجلًا. دفع هذا بزياد إلى أن يقترح على نحو مفاجئ، أن نرتاد واحدة من صالونات التدليك التايلاندية الشهيرة المنتشرة هناك، حتى يسترخي أمير من جديد، ويتطلع إلى زيارة الغد. ولدهشتي وافق أمير مرحبًا، فأدركت مدى إحباطه وتأثره، بل وربما يأسه من لقاء كانديد، كما حدث من قبل عند لقاء الدرويش القوني.
كالعارف ببواطن الأمور، أوقف زياد سيارة أجرة، واصطحبنا إلى بيت كبير، بكلمات موجزة لم أفهمها طلب من السائق التوجه إليه. عبر مدخل ضيق ارتقينا بضع درجات، لنجد أنفسنا داخل حجرة متسعة تحوي خشبة مسرح واسع، ذي خلفية من قماش أحمر لامع، تصطف فوقها فتيات ونساء من مختلف الأعمار، جالسات أو نائمات، عرايا كما ولدتهن أمهاتهن، أمام كلّ منهن رقم، تحت أضواء مبهرة تسطع من سقف خشبة المسرح. فهمت أنه يتعين علينا، وعلى آخرين يسبقوننا أو يلحقون بنا في صف الزوار، أن يختار كل واحد منا واحدة منهن، أو بالأحرى أن يختار الرقم المثبت بالبطاقة الموضوعة أمام كل منهن.
مزيج من الإحساس بالمهانة، والشعور بنشوة المغامرة الفريدة اجتاحني رغمًا مني. تقدّمنا زياد، وتبعه أمير، ثم جاء دوري فاخترت رقمًا لسيدة جالسة في استكانة وشجن. بعد مرورنا من أمام خشبة المسرح، انفتح باب جنبي في ممر داكن وصلنا إليه، خرجت منه النساء صاحبات الأرقام التي وقع عليها اختيار كل منا.
اصطحبتني امرأتي المذعنة، إلى حجرة مبلطة ببلاطات حمَّام بيضاء، يقوم عند أحد جوانبها حوض مسبح مرتفع بضع درجات، مملوء بالماء، تتصاعد منه أبخرة توحي بسخونة مياهه. بلغة الإشارة طلبت مني أن أخلع عني ملابسي، فخجلت أولًا، ولكن أشارت بأن أسرع، فرضخت مذعنًا. لم يبد عليها امتعاض من تقدم سني، أو ترهل بدني، فأدركت أن مثلي كثيرون مروا بحمامها من قبل، وعديدون سيدركونه من بعدي. ارتحت لتلك الفكرة، نوعًا ما. حضرني المثل الشائع: “وأنت في روما افعل ما يفعله أهلها”.
جلست في وسط المسبح، أما هي فبقيت خارجه وأخذت بفوطة مبتلة مغموسة بالصابون السائل، وصارت تدعك جلدي بقوة، ولم تترك شبرًا واحدًا إلا وعركته. ثم مدت يدها، فشدَّتني بذراع قويّة إلى خارج المسبح، وهي تجفف جسمي بمنشفة بيضاء كبيرة معطرة. ثم أمرتني بحزم أن أتجه نحو مائدة خشبية نمت فوقها مذعنًا. وصارت هي تدلق زيوتًا عطرة دافئة، تدعك بها ظهري وساقيَّ. ثم توقفت المرأة وأشارت إليَّ بحركات كفيها بأن أنقلبَ، حتى أرقد على ظهري. لكنني خجلت. أدركَت هي ذلك بسرعة، فغطت عورتي بفوطة بيضاء. ومن جديد صبت الزيت الدافئ فوق صدري وبطني وفخذيَّ وصارت تمعك. وبخفة مدت يدها المدربة تحت الفوطة، وفعلت بي ما اعتقدت أنه قبس من ماض سحيق.
في الخارج كان زياد متهللًا، وأمير بات مبتسمًا، أما أنا فشعرت بوخز ضمير لخيانتي الأولى لثريا، زوجتي الراحلة. نعم غدرت بها، حتى وإن فعلت ما فعت رغمًا مني. ولكنّ أحدًا منا لم يعلّق ولو بكلمة عما خضنا به قبل دقائق معدودات، بل ومضينا صامتين نحو الفندق.
غيَّرنا من ثيابنا، ورحنا في سبات عميق.
في تمام الرابعة من اليوم التالي، كنا هناك مجددًا؛ معبد “واط فو” أو “بوذا المستلقِي” أعلى الدرج المديد المؤدي إلى بهو المعبد. كان الراهب الشيخ في استقبالنا أيضًا. فور دخولنا، وجدناه يتجه نحونا مقتربًا، وقد علت وجهه المتغضن جديّة، مضادة لابتسام مطمئنّ كان عليه بالأمس.
أبلغنا ـ متأسفًا ـ بأن كانديد جاء عند الصبح ـ على غير عادة ـ ليتحاور معه. خفض ناظريه نحو الأرض، وصمت قليلًا، وهو يحاول استعادة تفاصيل الحوار الذي دار بينهما، وبدون أن يرفع رأسه، استرسل قائلًا:
“سألني عن المؤمنين الحقيقيين، أين يجدهم. أجبته بأنهم هنا وهناك، وفي كل مكان. قلت إنّ بوذا يعلمنا بأن الدين مثل الطعام، لابد من تنوعه حتى يلائم كل الأذواق. أجابني متسائلًا عن غياب متدينين آخرين من حولنا، فقلت لست أعلم. ثم أضفت أن بوذا يعلمنا أيضًا أنه عندما تعرّف نفسك أنّ أشياء معينة هي صحية وجيدة، تفضي بنفسك إلى الرفاه الروحي، وكذلك تفعل للآخرين، فاقبلها وتابعها. ولكن، عندما تعرف أن بعض الأشياء الأخرى هي غير صالحة بل وسيّئة، وتميل إلى إلحاق الأذى بنفسك من الآخرين، ورفضهم لك، فتجنبها. نحن مسالمون أما عن أصحاب الأديان الأخرى، فبعضهم يعتنقون أفكارًا مضرة بالآخرين، لذا فنحن نتجنبهم. ويبدو أنّ السيد كانديد استاء من كلامي، فأبلغني أنه ورفاقه راحلون إلى ماليزيا؛ إلى العاصمة كوالالمبور، ليتأملوا تعايش المسلمين مع البوذيين والهندوس هناك.”
ها هو كانديد يهرب من أمامنا من جديد.
عاد التوتر والانزعاج ليطيحا بأمير مجددًا، وإن ساعده الدواء هذه المرة على أن يسيطر على وجدانه، فلم ينفجر بركان التلعثم المجنون من جديد.
ألح زياد في أن يصحبنا إلى كوالالمبور أيضًا، إذ كانت رحلة الطائرة قصيرة نسبيًا، ولم يكن قد زار تلك المدينة الشهيرة من قبل.
هاتف زوجته، فتعجبتُ من إصراره على احترام مشاعرها في ظاهر الأمر، بينما لا يجد غضاضة في مضاجعة العاهرات من وراء ظهرها، بل ويستدعينا إليه، ويدفع بنا نحوه، دون أن تنتابه ذرة لوم، أو صحوة ضمير.
*الدكتور شريف مليكة، شاعر وكاتب وطبيب مصري من مواليد 1958، يقيم في الولايات المتحدة. يكتب في الشعر والقصص القصيرة والروايات. وله حتى الآن أربع دواوين شعرية بالعامية المصرية، وثلاث مجموعات قصصية، وسبع روايات أحدثها رواية “دعوة فرح” الصادرة عن دار العين للنشر في عام 2019.
« البحث عن كانديد »: الجزء الرابع – الثالث