وصلنا باريس نحو الساعة التاسعة صباحا، بعد أن نمنا من فرط الإجهاد كالأطفال، طوال الرحلة المسائية الطويلة. استعلمنا في محطة “جالييني” عن كيفية الوصول إلى وسط المدينة، فأشار علينا شرطي بأن نركب المترو، الخط رقم ثلاثة.
وبالفعل، كنا نجلس بعد نحو ساعة، إلى طاولة فوق أحد الأرصفة نحتسي القهوة الفرنسية القوية، ونقضم لفافات الخبز الفرنسي “باجيت” المحشوة بالجبن وشرائح اللحم المقدد.
كان ذاك إحساسًا جميلًا؛ أن أجد نفسي هكذا في قلب باريس، المدينة الحلم. كنتُ أشعر بنشاط وحيوية غير معتادين، حتى أني سارعت بالانتهاء من الطعام، وهممت واقفًا، وأعلنت أني على أتم الاستعداد لبدء تجوالنا في المدينة. تناسيت للحظة سبب زيارتنا المدينة، وتراءى إليَّ “برج إيفل”، و “حي مونمارتر”، وكاتدرائيّتا “نوتردام” والـ “ساكريكير”، و”متحف اللوفر”، وغاب عن ذهني تمامًا كل ما يمتّ بصلة لـ« كانديد » وأصحابه. لكن سرعان ما أفاقني أمير من حلمي بقوله:
“ما رأيكم بأن نبدأ البحث على الفور بزيارة كاتدرائية نوتردام؟ يسعدني أن أرى الأستاذ عاطف مستعدا كل الاستعداد!”
لكنّ زياد علّق قائلًا:
” بل يجب أن نجد فندقًا أوّلًا، حتى نضع حقائبنا، ثم نبحث دون أن يعترينا القلق من ألا نجد مكانًا للمبيت! على العموم فلديّ صديق هنا قد يتمكن من مساعدتنا.”
وبدون أن ينتظر جوابا، أخرج هاتفه المحمول وشرع يعبث به، ثم سرعان ما غدا يحادث صديقه، وشرع يكتب فوق ظهر فاتورة المقهى بضعة إرشادات. ولما فرغ من ذلك، توجه نحو أمير وقال:
“لحسن حظنا أنّ الباريسيين تركوا المدينة، واتجهوا نحو الجنوب لقضاء عطلة الصيف على الشواطئ هناك! على أيّ حال، فالفندق ليس ببعيد عن كنيسة نوتردام، ولقد أمدّني صديقي بوصفة سهلة للوصول إلى هناك.”
علقت سيسي لأول مرة، وكأنها لا تريد أن تظل خارج الصورة:
“هيا بنا إذن!”
لم تزل الطاقة التي منحتني إياها باريس الساحرة تتقلب بين جدران روحي، فتدغدغني حتى أكاد أن أقهقه بلا سبب واضح. لكنني ـ بالطبع ـ كتمت تلك المشاعر المراهقة، وآثرت أن أحتفظ بها لنفسي، كي لا ينالني ما ينالني من سخرية زياد، أو حنق أمير، أو حتى دفاع سيسي عن حقي المشروع في السعادة.
كان موظف الاستقبال ـ الذي علمنا فيما بعد أنه هو صاحب الفندق أيضًا ـ رجلًا مغربي الأصل، وإن هاجر بصحبة أهله منذ خمسة عقود أو أكثر، ولم يتحدث العربية على الإطلاق. وبما أننا ـ سيسي وأنا ـ لم نفقه اللغة الفرنسية، فقد اضطلع أمير وزياد بالحديث نيابة عنا.
استقبلنا بترحاب، وخاصة لما أعلمه زياد باسم الصديق المشترك الذي دلّنا إليه. كان الفندق بيتًا قديمًا ذا ثلاثة طوابق، يقع في حارة ضيقة، موازية لشارع رئيسي، حوطته حديقة منمنمة، وقد ورثه عن أبيه. ومع الوقت، أبدل السيد عدنان الأخضر غرف المنزل برمتها محولا إياه إلى فندق ـ أو كما يقولون سرير وفطور ـ لغرض السياحة، نظرًا لموقعه الرائع في قلب العاصمة، وبالقرب من محطة المترو، مما جعل الانتقال منه وإليه في منتهى اليسر. سكن هو غرفة بالطابق الثالث. في الداخل كان المبنى الحجري ينضح بتلك الرائحة التي نألفها نحن السكندريين؛ إنها مزيج من الرطوبة المسكرة، المتداخلة مع رائحة حمضية، ناتجة عن العث الذي يكتن في أركان البيوت العتيقة وبداخل جدرانها.
اتخذنا غرفة بالطابق الأرضي لسيسي، وغرفتين بالطابق الثاني لنا ولزياد. لكننا ألقينا بحاجياتنا، لنتجه على الفور سيرًا على الأقدام إلى كاتدرائية “نوتردام” الشهيرة. بحت لأمير، ونحن ننزل الدرج إلى الطابق الأرضي:
“أشعر وكأنني بصحبة توفيق الحكيم، في بعثته التي كتب عنها في « عصفور من الشرق ». أشكرك يا أمير، أن أتحت لي أن أرى باريس قبل أن أموت!”
فرد أمير ضاحكًا:
“بل اشكر كانديد يا عم عاطف!”
كانت الشمس ساطعة بينما كنا نعبر نهر السين من فوق “جسر نوتردام” المؤدي إلى الكاتدرائية العملاقة التي تبدت لنا بين صف من الأشجار الباسقة، كشاهد على تاريخ باريس الممتد من العصور الوسطى، إلى الحملات الصليبية، وإلى حفل تتويج نابليون وزوجته جوزفين، وحتى أن كتب عنها فيكتور هوجو رائعته “أحدب نوتردام”.
ما إن دخلنا حتى تبدت لنا روعة البناء من أرضية رخامية فاخرة، إلى أعمدة شاهقة الارتفاع، تتقابل بعضها إزاء بعض بأقواس تؤدي إلى سقف سماوي تتدلى منه أروع الثريا، وتفضي إلى المذبح الذهبي عند أقصى البهو المهول. لم أدرك تفاصيل المذبح الفخم، الذي تتصدر واجهته لوحة هائلة للمسيح المصلوب، حتى تقدمنا نحو خمسمائة متر نحوه، ناهيك عن التماثيل واللوحات الزيتية المبهرة، التي تزين الجدران في كل سنتيمتر عبرناه. يا له من مهرجان من الجمال والروعة!
أما عن نفسي، فقد نسيت كانديد وصحبه، وأنا غارق في عالمي، لا أندم على شيء سوى افتقادي لصحبة ثريا زوجتي الراحلة، التي تمنيت لحظاتها لو كانت تشاركني السباحة في خضم تلك الطلاوة الأخاذة. ولكنني سرعان ما تحسرت على مشهد سيسي، وهي تتقدم ببطء شديد وحذر مخوف، وكأنها شبه واقفة، وحيدة، عند منتصف الممر المؤدي إلى المذبح. فلقد تركناها وراءنا، وتقدمنا بعيدًا عنها، مأسورين ببهاء المشهد الخلاب، بينما لبثت هي أسيرة الظلام والوحدة، في فضاء القاعة المهولة الجوفاء، حسب ما خُيِّل إليّ من رجع إيقاعات طرقها فوق الأرض الرخامية بطرف عصاها. ولسبب أو لآخر، شرع أحدهم يعزف الأرغن الهائل، فجفلت المرأة وكادت عصاها أن تسقط منها، فأسرعت نحوها لأساعدها.
أعادتني المرأة إلى مهمتنا التي من أجلها جئت إلى هنا، والتي لولاها ما كنت قد قابلت سيسي أصلًا. تلفتّ حولي أبحث عن أمير وزياد بين جموع الزوار، وأغلبهم كانوا من السائحين فيما اعتقدت. أبصرت أمير يحادث أحد الكهنة بجلبابه الأبيض عند الناحية المقابلة، فملت إلى أذن سيسي وأبلغتها، فابتسمت.
اتجهنا إلى مكان أمير، ولكنني لم ألمح زياد. أشرت إلى سيسي أن تتوقف بعد أن صرنا على بعد خطوات من أمير والقس الكاثوليكي، وكانا ما يزالان يتحاوران. جلت بنظري أبحث عن زياد، ولكني لم أجده. بعد أن انتهى أمير من حديثه، حيّا القس ثم اتجه نحونا. قال إنهم يستعدون للصلاة الآن، وهم في العادة يبدؤون بالترنيم، مما فسّر بدء عزف الأرغن. سأله ـ بالطبع ـ عن كانديد، ولكنه لم يبد معرفته بأيّ شيء يتعلق به. شرعنا إذًا في الخروج، ولكن زياد لم نجد له أثرًا، بعد بحث استمر لفترة غير قصيرة. لم أدر ماذا نفعل، لكنّ سيسي حسمت الأمر بقولها:
“لا بد من أنه التهى بملاحقة إحدى الفرنسيات، فهن لا يقاومن!”
ضحكنا من كلماتها، وتعجبت مرة أخرى من قدرتها على قراءة مَن حولها بهذه الدقة رغم عجزها. لكني بادرت وسألت أمير عن وجهتنا التالية، فنظر إلي وقال:
“يبدو لي أنك مشتاق لرؤية حي مونمارتر الذي كتب عنه حبيبك توفيق الحكيم في ’عصفور من الشرق‘ أليس كذلك؟” فأومأت موافقًا، فزاد: “إذن فلنذهب إليه ونزور ’كاتدرائية ساكريكير‘ هناك. ما رأيك؟” فأشرت مؤيدًا من جديد، ولكني تساءلت:
“وماذا عن زياد؟”
فأجابت عنه سيسي:
“زياد يعرف مكان الفندق، فإذا لم نجده خارجًا، فلنذهب بدونه، ثم لابد أن نلتقيه في المساء عند عودتنا. لا تنس، أنه هو الذي بادر فتركنا يا عزيزي!”
خارج الكنيسة، ووسط عشرات الزوار، طالعنا زياد بوجه مضطرب، وهو يدّعي بأنه صار يبحث عنا دون جدوى، في كل مكان منذ دخلنا إلى رحاب الكنيسة. ولكن أيًّا منا لم يعقب، فلقد كان خجله من استهتاره بنا، وبتعهده لأمير من قبل، باديًا فوق وجهه.
وبالفعل انطلقنا نحو محطة المترو القريبة، واتجهنا إلى حي مونمارتر؛ أو “تل المريخ”، وملتقى الفنانين العظام مثل رينوار، ومونيه، وماتيس، وديجا، وبيكاسو، ومجمِّع البوهيميين، والصعاليك، وبيت المهاجرين الجدد من شمال ووسط وغرب أفريقيا. وقد وجدناه كذلك حقا؛ تل مرتفع يبدأ من الميدان حيث صعدنا من قلب الأرض، عند محطة المترو. ثم يتفرع الميدان إلى شوارع مبلطة بالحجر، تتراص إلى جانبيها مقاه، ومطاعم، وحانات، وبيوت بديعة الألوان والزخرف، تتكون من ثلاثة أو أربعة طوابق على الأكثر، وترتفع الطرقات وتعلو، حتى أن بعضها كان عبارة عن سلالم متدرجة، كلما اقتربنا من كاتدرائية الـ “ساكريكير” الشهيرة المشيدة فوق قمة التل. كانت مرتفعة جدًا، بحيث خيّرونا بين أن نصعد إليها عبر سلالم تبدو لا نهائية، أو نجلس إلى عربات كهربائية ترفعنا إليها، ولا أتذكر إن كانت مجانية أو بمقابل أجر زهيد. اخترنا ـ بالطبع ـ العربات الكهربائية ربما بسببي، ومن أجل سيسي كذلك. عند القمة ترجلنا، ونظرت إلى أسفل فتبدت باريس كلها تحتنا، فأبصرت أيضًا ـ عن بعد ـ “برج إيفل” شامخًا، لأول مرة منذ وصولنا.
تقدمنا نحو المبنى الشاهق ذي القباب البيضاء الراسخة والأقواس عند المدخل، تلك الأقواس التي ذكرتني ـ مع فارق الحجم والفخامة ـ بكاتدرائية سانت كاترين بالإسكندرية. وبداخلها تبدت عظمة الفن البيزنطي المتجلي في رسم لقيامة السيد المسيح فوق قبة تعلو المذبح الرئيسي، وعلى الجدران لوحات لمختلف القديسين. لم تتمتع “ساكريكير” بالفخامة ذاتها التي شهدناها داخل “نوتردام”، لكنها كانت لسبب أو لآخر أقرب إلى نفسي. وبالفعل، ألفينا روادها أقلّ من أولئك الذين قابلناهم في الكاتدرائية الأولى. نظرت نحو أمير وقلت:
“فرصتنا للقاء كانديد هنا أكبر!”
ابتسم أمير، وهو يجول ببصره بين الزوار، يبحث عن شبيه لوجه في لوحة كان رسمها قبل أيام قليلة، في قطار عبر بنا من “شتاينهايم” إلى “مُنستر” بـ ألمانيا!
وفجأة، صاح زياد:
“ها هو! كانديد هناك! بجوار العمود المقابل، يتحدث إلى القس… انظر، هناك!”
وفعلًا، اتجهت أعيننا في الاتجاه الذي أشار نحوه، لكنّ بهو الكاتدرائية كان مزدحمًا، فلم تصل نظراتنا إلى الهدف. أما عن زياد فاستطاع بعملقته أن يجتاز رؤوس الجميع ويبصره. على أي حال، اتجه ثلاثتنا خلف زياد ما بين تكتلات الحشد اللفيف، وهو يحثنا أن نسرع حتى نلحق به. لكن ما إن اقتربنا من الناحية الأخرى للقاعة، حتى تصايح زياد من جديد:
“لقد ترك الوغد الكنيسة، اختفى!”
فتأفف منه أمير، وعلق فورًا:
“أسرِع ناحية البوابة لتلحق به، بدلًا من إطلاق لسانك السليط هذا!”
اتجه زياد نحو البوابة الرئيسية، بينما استأنفنا نحن التقدم وسط الحشود في الاتجاه ذاته ، لنلاقي القس الذي كان كانديد يحادثه.
وبالفعل وصلنا، ووجدناه واقفًا في ذهول باد، تحت عمود رخامي ضخم. رجل متوسط العمر، حليق الرأس، يميل للبدانة. حياه أمير، فأفاق من دهشه، ومد يده البضة مصافحًا إياه بتلقائية وهو يقول:
“الأب جان لوي فرانسوا.”
“وأنا أمير فهيم، من مصر!”
“مرحبًا بك!”
أخيرًا بدا القس وكأنه استعاد جأشه من جديد، فابتسم وهو يقول بلهجة رسمية:
“كيف أستطيع مساعدتك؟”
رد عليه أمير بالفرنسية، فازدادت ابتسامة الرجل اتساعًا:
“هذا الرجل الذي كان يحادثك الآن…”
ذهل القس من جديد، ثم عقد ذراعه فوق صدره بينما استند مرفقه الآخر فوقه، وبدأت أصابع يده تعبث بصدغه وذقنه الحليق وهو يتفكر في صمت. ثم تمتم قائلًا:
“نعم، ذلك الرجل…”
فبادره كانديد بجرأة:
“كانديد!”
أومأ القس موافقًا:
“نعم كان صريحًا جدًا!”
حينئذ التفت أمير نحونا، وهو يكتم ضحكة كادت أن تفلت منه:
“أعرف أنّ كانديد بالفرنسية تعني ’صريح‘، ولكنني أسألك عن الرجل، ذلك الرجل اسمه كانديد!”
فابتسم القسيس أخيرًا، بل وأفلتت منه قهقهة مبتورة، وقال سارحًا:
“عندما قدمت نفسي إليه، وقلت الأب جان لوي فرانسوا، ردّ وقال كانديد، فحسبته يطلب مني أن أصارحه بشيء ما، لأنه ما لبث أن سألني مباشرة عن المؤمنين بحق، أين يمكنه أن يجدهم!”
سأله أمير على الفور:
“وماذا أجبته؟ أعني، بماذا رددت عليه قداستك؟”
عاد القس ينظر بعينيه الزرقاوين إلى لا شيء، وكأنه يحاول أن يبحث عن تفصيلات عتيقة، لا ملابسات حديث وقع منذ دقائق. ثم ردّ بينما كانت أصابعه تعبث من جديد بذقنه اللامع:
“في الواقع، لم أفهم سؤاله، فالحديث عن الإيمان معقد جدًا. لقد قرأت عن الإيمان كتبًا ومجلدات، بدءًا من معلمنا يوحنا ذهبي الفم، إلى القديس أوغسطينوس، وآخرين. لم أكن مستعدًا بالفعل للإجابة عن تساؤله ذاك المشروع!”
ولكنّ أمير لم ييأس، فسأله من جديد:
“هل تعني ـ فخامتك ـ أنه ذهب عنك بدون أن يعرف إجابتك؟”
عندها رفع الكاهن سبابته، وكأنه أدرك الإجابة أخيرًا، وقال:
“لا! بالطبع لم أدعه يرحل دون أن أجاوبه! فقد سألني سؤالًا منطقيًا، لذا كنت حريصًا أن تكون إجابتي دقيقة، وخاصة لأنه استبق سؤاله بلفظ كانديد، الذي فهمته، وكأنه يقصد أن أكون صريحًا معه. لا أدري لماذا تراءى لي أنه كان يسألني عن أناس مختلفين عن بقية البشر من حولنا، ولست أعرف الآن، إذا ما كان يعني ذلك أم لا. وكذلك مظهره الخارجي ـ أنا آسف أن أعترف بذلك ـ ولكن هندامه بدا لي قديمًا باليًا، فأدركت أنه عالِم من نوع فريد، أو ربما كان قد جاء ليختبر إجابتي عن سؤال معقد مثل ذاك الذي طرحه، هكذا بإيجاز: ’أين أجد المؤمنين بحق‘؟ يا له من سؤال! لذلك قفز إلى ذهني هؤلاء المؤمنون القديسون؛ الذين تسبب إيمانهم في حدوث معجزات مثلًا، أيّ أشياء خارقة للطبيعة ـ إذا كنت حضرتك تؤمن بتلك الأشياء ـ فنحن الكاثوليك نؤمن بذلك، ولكننا لا نعترف بأن تلك الأشياء يمكنها أن تضيف إلى الإيمان الصحيح، وإنما تحمل في طياتها رسالات إلهية قد تساعدنا أحيانًا في فهم أشياء رهيبة قد تحدث في العالم من حولنا. لكن جرى العرف أن يتأكد المجمع المقدس لعقيدة الإيمان، من تلك الخارقات قبل أن توثق. أنا آسف لأنني أطلت عليك، ولكن تلك كانت الخواطر التي مرت برأسي حين سألني. خطر لي أن أوجهه إلى ’لوورد‘ في جنوب فرنسا، حيث ظهرت السيدة العذراء للطفلة برنادت سوبيرو، والتي صارت قديسة فيما بعد. ولكنني تفكرت، وبما أننا في باريس يا صديقي، كان ما تبادر إلى ذهني عندها هو ظهور السيدة العذراء في ’شارع دو باك‘ لـ ’كاثرين لابوري‘ الراهبة المستجدة في دير للراهبات هناك، أسبوعًا واحدًا قبل قيام الثورة الباريسية، في القرن التاسع عشر. وبالفعل، ظننت أني أجبته عن تساؤله، ولاسيما أنّ أساريره انفرجت حين أعلمته، فشكرني، وهو يشد على يدي بحرارة، ثم سرعان ما تركني ومضى، وفي غضون ثوان، كان قد اختفى. إنه شيء محيّر للغاية، لم أر له مثيلًا طول خدمتي!”
ظل القس هكذا صامتًا، متأملًا للحظات الفراغَ الرحب من فوق رأس أمير، ثم نظر نحوه فجأة، وهو يتساءل:
“وماذا عنك أنت يا صديقي، هل تعرفه، أعني هل هو مبعوث من جهة ما ليبحث في شأن إجابتي عن سؤاله العميق هذا، أم ماذا؟ أرجوك أن تبوح لي بالحقيقة كلها، ولا تخف عني أيّ شيء. أنا مستعد لأن أتقبل كل ما تقوله لي بصدر رحب!”
هنا تنهد أمير متفكرًا في ما إذا كان يجدر به أن يبوح للأب جان لوي فرانسوا بسرّ مجيئنا إلى باريس، وبالذات إلى كاتدرائية “ساكريكير”. وبعد تردد قصير، وجدت أمير يشرح للقس كل ما كان من رحلتنا من الإسكندرية إلى إسطنبول، ثم لقائنا الدرويش القوني بالأناضول، وسفرنا إلى باكوك حيث أعلمنا الراهب البوذي بسفر كانديد إلى ماليزيا، ثم مقابلة زينب الماليزية التي أنبأتنا بسفره إلى بودابست، حيث التقينا بالقس الذي وجهنا نحو فيينا أولًا ثم براج، حيث شاهدناه لبضعة ثوان داخل المعبد اليهودي هناك، قبل أن نتعقبه إلى مقاطعة ويستفاليا بألمانيا، ومنها لحقنا به هنا في باريس حيث شاهده الأب الكاثوليكي وتحدث معه ، وهو الذي أرشده بدوره إلى دير الراهبات بشارع “دو باك”!
حينها انفعل الكاهن وتهلل قائلًا:
“أوه! وأنتم تفعلون كل هذا من أجل إنقاذ البشرية! يا لكم من أبطال! هل لي أن أسألك يا أخ أمير عن الجهة التي تموّل مشروعكم العملاق هذا؟”
فأجابه أمير متفاخرًا:
“لقد ورثت بعض المال عن أبي، وأنا أرسم بينما تعزف صديقتنا سيسي الكمان، فنجمع بعض النقود هنا وهناك، ونتكفل بالمصاريف هكذا!”
أما الأب الكاهن، فأبى أن يجعله يمضي، بل طلب منه أن ينتظر حتى يعود إليه. وفعلًا مشى حتى وصل إلى باب جانبي، واختفى عنا لبضعة دقائق، تزامنت مع عودة زياد خائبًا، بعد أن فشل في العثور على كانديد خارج الكاتدرائية بسبب الجموع الغفيرة التي تلاشى بينها.
عاد الأب جان لوي فرانسوا، وفي يده مظروف أبيض يحمل علامة الكاتدرائية العظيمة فوق واجهته. طلب من أمير أن يفضه أمامنا. فلمَّا فعل أمير، نظر إلينا في ذهول، ثم تطلع نحو القس وهو لا يدري ماذا يقول. فقد كانت الخمسة آلاف يورو الراقدة بداخل المظروف كفيلة بإخراسه من شدة المفاجأة. أما الأب جان لوي فرانسوا فقال:
“لا تقل شيئًا، لكن بداخل المظروف سوف تجد بطاقة بها رقم الهاتف الخاص بي وعنواني البريدي، فلا تتردد في طلب نقود أخرى، قد تعينكم في مهمتكم المباركة!”
بينما صرنا متجهين إلى خارج الكاتدرائية، غاص كل منا في سكينة الذهول مما شهدناه لتونا. فبالنسبة إليَّ أنا شخصيًّا، أربكني أيما إرباك مصادفتنا لضالتنا كانديد للمرة الثانية، بعد أن تنبأت بها لأمير، ثم سخاء القس جان لوي فرانسوا المفاجئ. تساءلت عما يعنيه كل ذاك، فبالرغم من ترددي الأوَّلي، وشكوكي حيال الخوض في تلك المغامرة، فإن الملابسات التي مررنا بها، وخاصة أحداث هذا اليوم، جعلتني مؤمنًا بجدية مشروعنا، بل وتحديدًا مشروع أمير في البحث عن كانديد.
*الدكتور شريف مليكة، شاعر وكاتب وطبيب مصري من مواليد 1958، يقيم في الولايات المتحدة. يكتب في الشعر والقصص القصيرة والروايات. وله حتى الآن أربع دواوين شعرية بالعامية المصرية، وثلاث مجموعات قصصية، وسبع روايات أحدثها رواية “دعوة فرح” الصادرة عن دار العين للنشر في عام 2019.
« البحث عن كانديد »: الجزء العاشر، الفصل التاسع