قام زياد بإجراء مكالمة مع زوجته ليطمئنها على سلامتنا، فبدا أنه كان قد أعلمها مسبقًا بسفرتنا إلى فرنسا، وبالتالي ألمَّت بما حدث في نيس.
استقللنا القطار في صمت، غير مصدقين أنهم سمحوا لنا بالسفر أخيرًا، واقتنعوا بأننا في مهمة للبحث عن كانديد، وفي قلب فرنسا، بلد فولتير!
كنا ـ هذه المرة بالذات ـ على موعد معه في الـ’سيستين شابل‘! نعم، موعد قاطع، عيَّنه هو، ووصّى به مباشرة، وليس مجرد تعقبٍ لوهم، أو تحقيقٍ لحلم، أو إدراكٍ لخيال. وبعفوية، وجدتني أمد يدي، لأخرج الورقة التي تركها لنا كانديد، وكاد أمير أن يتلفها، وأوشكت أن تتلفه، بعد أن حشرها حشرًا داخل فمه.
راح الكل في سبات عميق منذ تحرك القطار. بينما ظللتُ أنا يقظًا، أتأمل الورقة التي طحنها أمير، قبل أن أخلصها من جوف ثغره. فتحت ضياء المصباح الرفيع، المثبت بالسقف من فوقي، رحت أتأملها.
ها هي الرسالة بين يديّ، أتفحصها كدليل مادي منظور، مدوَّن بخط يد كانديد، وموقعة باسمه. لا مجال الآن للجدل حول حقيقة وجود كانديد من عدمها، أو صحة شهادة من شهد، عن لقائه ومشاهدته، أو الحديث معه. بل ولم تترك لي كلماته المدونة حيزًا ـ ولو ضئيلا ـ للشك في صحة نظرية أمير، تلك التي طرحها عليَّ قبل بضعة أشهر. لكن السؤال الذي يلح عليَّ الآن هو: “هل عاد كانديد إلى الحياة في عصرنا هذا، لإنقاذ العالم من شروره كما يدَّعي أمير؟ أم إنه بات موجودًا منذ خلقه الفرنسي فولتير، قبل مائتين وخمسين سنة، وظل عبر كل الأزمنة والعصور يزرع حديقته، أو يتجول بين شتى بقاع الأرض، وإن غاب عن الإنسانية أن تدرك كينونته بيننا من قبل؟ وفي هذه الحالة، فما المانع أن يكون بيننا عشرات بل مئات من الشخصيات الروائية؟ هل يمكننا أن نجد بيننا اليوم دون كيشوت، بطل رواية سرفانتس؟ وهل ما يزال يحارب طواحين الهواء، وهو الذي سبق مولد كانديد بنحو مائة عام؟ أو هل ترى بات سيرانو دي برجيراك، شخصية إدمون روستاند، يتجول بيننا منذ القرن التاسع عشر، وكان قد عاش قبل كانديد بأكثر من ثلاثمائة عام؟ ربما كان أمير ميكيافيللي يهيم بيننا أيضًا، أو لعل الشابة أنتيجون نفسها تسير بيننا وهي شخصية سوفوكليس في المسرحية التي كتبها أربعة قرون قبل الميلاد؟ فما المانع، إذا صار لدينا دليل على وجود كانديد، أن نجد هؤلاء، ومئات غيرهم بيننا؟ هذا طبعًا بعد غياب الأبطال التراجيديين الذين قتلهم مؤلفوهم من أمثال هاملت، وعطيل، والملك لير… ”
“السؤال الذي ينتابني الآن، هو بخصوص دعوة كانديد لنا إلى أن نقضي يومًا بمتحف اللوفر، قبل أن نلقاه في روما. لماذا؟ هل كانت دعوة إلى الترفيه والراحة، ولو ليوم واحد، لالتقاط الأنفاس؟ هل قصد بهذه الدعوة أن يتيح لنا ـ مثلًا ـ أن نلقي نظرة عابرة على تاريخ البشرية برمته، عن طريق تطور الفنون، كما رتب المتحف العريق عرض مقتنياته؟ بل، وهل كان يرسل لنا رسالة مستترة لم نعها بعد؟ لابد أن أطرح هذا التساؤل على سيسي بالذات، فهي تتمتع ببصيرة مدهشة، أو على أمير، أو حتى زياد، لعلهم يعينوني على إيجاد إجابة. ثم لماذا استدعانا كانديد للقائه في كنيسة ’سيستين‘ في روما بالذات؟ ولِمَ لم يسألنا أن نقابله بمتحف اللوفر مثلًا، وهو الذي أشار إلينا أن نزوره، بما يجزم بأهميته لديه؟ أما كان أجدر به أن يلقانا اليوم، هنا في قلب باريس، في رحاب هذا المقام الأصيل، دون الحاجة إلى سفر جديد، وتفتيش وتحقيق من قِبل أفراد شرطة باريس؟ لا شك لديَّ الآن في أنه يسعى إلى لقائنا، ولكن مغزى إشاراته ما يزال يغمض عليَّ.”
“دعوى زياد بأنه يتهرب منا، أو أنه يتنصل من لقائنا، لم يعد لها مقام الآن. والدليل الجليُّ يكمن في طيات هذه الرسالة التي تركها لنا. فالسيد عدنان الأخضر لم يعرف بأيّ حال أنّ زيارتنا لباريس، كانت لغرض البحث عن كانديد، ومع ذلك فهو الذي بادر إلى إعلامنا بزيارته لنا بالفندق، وتركه هذه الرسالة لنا. بل ولم تبدُ عليه إمارة واحدة، تشي بمعرفته بشخصية كانديد الروائية بالأساس، حتى بعد أن قدّم كانديد نفسه إليه، بينما هو يسأل عنا. لذلك أقول إنه من المستحيل أن يكون السيد عدنان قد انتحل قصة حضور كانديد ليطلب لقاءنا. إذن، فلا أثر لاشتباه، أو لافتعال، أو لكذب، أو حتى مجرد ريبة في أصالة تلك الرسالة، وكونها ـ كما يحمل توقيعها ـ موجهة من كانديد شخصيًّا إلينا. كما إن هذه الرسالة تحمل دعوة صريحة منه إلى لقائنا في روما، بل وحدد فيها المكان والزمان اللذين يبتغي لمقابلتنا أن تجري فيهما. فهو إذا لا يسعى إلى التملص من لقيانا. فلقد كان باستطاعته أن يترك باريس، وهو مدرك تمامًا من أننا سوف نتعقبه إلى روما، في كل الأحوال، بعد تحاورنا مع الراهبة في الدير. لكنه رمى بهذه الرسالة، أن يعلن عن تغيير جذري في رحلة بحثنا عنه. لم نعد نمارس لعبة القط والفأر، لن نطارد كانديد هنا أو هناك بعد البارحة، بل لقد صرنا أصدقاء له، يدعونا إلى أن نلتقي به، ويرحب بلقائنا، بل ويناشدنا أن نستمتع بالرحلة في باريس، حتى يحين موعد ذاك اللقاء الموعود في روما!”
استرسلت في تلك الأفكار، حتى تملك مني تعب ليلتين متتاليتين من الأرق، فغلبني النوم أخيرا، واستجبت له مرحبا.
استفقت على أصوات أمير وزياد، تنبهني إلى اقتراب موعد وصولنا إلى روما. بحثت بين كفيَّ، فاكتشفت على الفور ضياع الورقة – الرسالة التي تركها لنا كانديد ـ من بين يديّ، حين غفوت. انتفضت من مكاني، وفحصت بعناية كل جيوبي. صرت أبحث عنها فوق المقعد، وأسفله، وفي المساحة الضئيلة بين المقعدين، حتى وجدت أن وسادة المقعد وقد انخلعت عن مكانها بين يديّ، فبحثت تحتها. كل ذاك ظل بلا جدوى، فلم أعثر لها على أثر!
أثارت حركتي فضول أمير، فاقترب مني، وتبعه زياد، مستعلمين عما أفتش عنه بيأس هكذا، فقلت:
“الرسالة!”
فسأل أمير على الفور:
“أيّ رسالة؟”
“الرسالة التي تركها لنا كانديد…”
“ولكنني أتلفتها بالأمس، هل نسيت؟”
“لا لم تفسخها كلية، بل انتزعتها أنا من فيك، ثم احتفظت بها. وقد ظللت أعاينها لساعات خلال رحلتنا، هنا بالقطار، الليلة الفائتة. لا بد أنها سقطت مني هنا أو هناك حين غفوت!”
هبّ أمير، وساعده زياد في فحص المقعد من جديد، وقلبنا المكان من جديد رأسا على عقب، لكن بلا فائدة. لقد اختفت الرسالة!
ظلت سيسي تغط في سباتها، رغم اشتداد الحركة حول مقعدي المجاور لها. شككت للحظة، في أن تكون هي قد سحبتها من بين يديّ حين غفوت، لكني استبعدت ذاك الاحتمال، أوّلًا لسبب عماها؛ إذ كيف لها أن تدرك أنّ الورقة بحوزتي، إن لم أكن أعلمتها بذلك، وأنا لم أفعل. وثانيًا، حتى لو ارتابت في وجود شيء معي، ودفعها الفضول إلى أن تنتزعه من بين أصابعي، فلا بد لها وهي الكفيفة، أن تلمس يدي أو أصابعي، أثناء المحاولة، ولو حدث ذلك لكنت استيقظت على الفور. ثم ما الذي يدفع امرأة بهذه الفطنة، إلى أخذ ورقة من بين يديّ، لن تقدر على قراءتها أصلًا. كما إنها تدرك تمامًا درجة إفلاسي، فلن يلوح لها أن أوراقًا نقدية ـ مثلًا ـ كانت بمعيتي، أنا بالذات، حتى لو افترضنا أنها كانت تسعى إلى السرقة!
في نهاية الأمر وصلنا إلى روما، دون أن نجد للورقة المراوغة أثرًا في أيّ مكان.
قررت أن أنحّي أمر الورقة جانبًا، فأضفته إلى رزمة الأشياء التي فشلت طوال رحلتنا، في أن أجد لها تفسيرًا منطقيًا. شرعت أعدل من هندامي، وأسيطر على اضطرابات أفكاري المشتتة، وأنا أستعد للقائي الأول بالعاصمة الإيطالية. لقد غادر القطار باريس في المساء، في الساعة السابعة والربع، ووصلنا صباح اليوم التالي في تمام العاشرة إلا ثلثا.
لم يكن لدى أيّ منا معرفة سابقة بأماكن الإقامة في المدينة الصاخبة. عند مغادرة (النزول من) القطار، وجدنا أنفسنا داخل مبنى أشبه بالمطار منه إلى محطة قطار؛ فالسلالم المتحركة، والعواميد الفولاذية اللامعة، وشواهد السفر والوصول الإلكترونية، والواجهات الزجاجية، ومحلات الأزياء، والأحذية، والإكسسوار، والطعام، توحي كلها بالسوق الحرة في أي مطار فخيم مررنا به. ولكن، ما إن غادرنا إلى الخارج، حتى تخيلت لأول وهلة أننا نزلنا بميدان “رمسيس” في القاهرة.
ساحة واسعة مكتظة بالناس الذين يشبهوننا إلى حد بعيد، فهم يتحدثون بصوت مرتفع مثلنا، ويتضاحكون دائمًا. تلك الساحة يحدّها عند مرمى البصر شارع ومبان وحركة دؤوب، وسيارات أجرة تقف بغير نظام، يتخاطف سائقوها الزبائن. لكني ارتعدت لرؤية رجال يرتدون زيّ الجنود، وكانوا ممشوقي القوام، يحف رؤوسهم الحليقة كاب أحمر مائل إلى جانب، ويقفون قابضين ببنادقهم الآلية، على أهبة الاستعداد لمواجهة أيّ خطر. درجة الحرارة المرتفعة، ونسبة الرطوبة كذلك، والشوارع المزدحمة، والسيارات والحافلات يعج بها الطريق، كلها ذكّرتني ببلدي.
الإشكال كان في جهلنا بأيّ مكان يمكننا أن نقيم به، حتى نضع حاجياتنا على الأقل، ثم نبدأ رحلتنا إلى كنيسة “سيستين” تلك!
اتجهنا نحو محطات الأتوبيس، فوجدنا ضالتنا. إعلانات عن فنادق مخفضة الأثمان، وغرف ببيوت، تشمل خدماتها الإفطار، ووقفت شابة ترتدي تنورة كحليّة اللون ضيقة، وقميصا أبيض هفهافا، تحضننا بابتسامة إيطالية واسعة. بالطبع، اتجه زياد نحوها، وتحدث معها بالإنجليزية، ولحسن الحظ جاوبته، إنما بلكنة إيطالية غليظة، ولكن مفهومة.
انتهى بنا الحال إلى الإقامة بفندق يطل على واحد من الشوارع الرئيسية، بوسط المدينة، أظنه كان اسمه “إنترناسيونالي” أو شيء من هذا القبيل. كانت الغرفة ضيقة للغاية، لكن الزخرف واختيار الألوان أضفيا على المكان ككل روحا مرحة، جعلت الإقامة به مبهجة. وضعنا حاجياتنا، ثم سحبنا خريطة من موظف الاستقبال الأنيق، واتجهنا إلى أقرب مطعم بيتزا.
بينما كنا نقضم الشرائح الرقيقة، إذ طرحت السؤال الذي أرّقني خلال رحلة القطار بالأمس:
“لماذا حثّنا كانديد على التوجه نحو متحف اللوفر، قبل أن نغادر باريس إلى روما؟ ولماذا لم يلقنا بفرنسا فيكفنا مشقة السفر؟”
تبدت الدهشة على وجوههم، إذ لم يخطر ذلك التساؤل على بال أيّ منهم. لكن ـ وكما توقعت ـ ازدردت سيسي قضمتها في عجالة، ثم أجابت:
“لسببين ـ في رأيي؛ أوّلا لأن الراهبة التي التقاها في دير الراهبات، أشارت إليه بأن يبحث عن المؤمنين الحقيقيين بالفاتيكان، فكان عليه أن يترك باريس ويأتي إلى هنا، وثانيًا لأني قرأت الكثير عن الـ ’سيستين تشابل‘، فهي مكان خاص جدًا، حقق فيها الانسان أهم إنجازات عصر النهضة، بل ويعتبرها البعض، قمة مآثر الفنون بوجه عام، فبها لوحة ’خلق آدم‘ التي تعد أحد أهم أعمال ’مايكل أنجلو‘، فأراد كانديد أن نلقاه لأوّل مرَّة، في رحاب ذلك الصرح الخالد.”
نظر أمير وزياد نحوها مندهشَين، غير مصدّقين لمدى بصيرة تلك المرأة. وفي لحظة واحدة، كان أمير ينحّي عنه ما تبقى من شريحة البيتزا من أمامه، ثم يقف معلنًا:
“علينا أن نذهب فورًا! يجب أن نكون الآن داخل كنيسة الـ’سيستين‘. لا تنسوا أنّ كانديد جاء إلى هنا يومًا كاملًا قبلنا، وربما ـ بل أنا متأكد ـ من أنه قصد الكنيسة تلك منذ الصباح الباكر!”
كالعادة أثمر أسلوب أمير الآمر، فانتهينا من طعامنا خلال لحظات. التففنا حول الخريطة، فأشار زياد إلى بعض المعالم، ثم سرنا نحو الـ “كوليزيام” الشهير. انبهرت بضخامته، ومنّيت نفسي بزيارته في وقت لاحق، وإن لم أجرؤ أن أتفوّه بذلك، لئلا أستثير أمير. سرعان ما صرنا داخل حافلة، متجهين نحو متحف الفاتيكان، شغوفين بلقاء كانديد الموعود.
في الواقع، كانت الرحلة القصيرة بمثابة استعراض لمعالم روما الفاتنة؛ كمّ هائل من بنايات وكنائس، لم تكن سوى معرض لفنون العمارة الباهرة الحسن. تطلعت نحو أمير، فوجدته يشاركني الانبهار. تذكرت أنه خريج كلية الفنون الجميلة، فخمنت أن يكون تأثير ذلك المعمار الآسر مضاعفًا لديه.
حين وصلنا، فوجئنا بأنّ متحف الفاتيكان كان في الواقع عدة متاحف، ولم تكن الـ “سيستين تشابل” سوى جزء منه. لكنّ الصدمة الكبرى كانت في طول طوابير الزوار، لابتياع تذاكر الدخول. تفتّق ذهن زياد عن فكرة أن يذهب مباشرة إلى الحارس الواقف بجانب المدخل، ويسأله إن كان ثمة مكان مخصص للمعوقين، لأننا كنا برفقة سيسي. وبالفعل خلال بضع دقائق فقط، كنا داخل المتحف، في طريقنا نحو الكنيسة الشهيرة.
تخطينا طبعًا متاحف الفاتيكان المختلفة، تلك المتاحف المخصصة للتماثيل، وللوحات عظماء عصر النهضة كمايكل أنجلو، ورافاييل، وليوناردو دافنشي، وكارافاجيو، وغيرهم ـ في حينها على الأقل ـ ثم اتجهنا مباشرة إلى كنيسة الـ “سيستين تشابل” حيث من المفترض أن يلقانا كانديد، حسب الاتفاق.
لكن ما إن دلفنا إلى القاعة المؤدية إلى الكنيسة، حتى انتبهنا إلى إشكالية جديدة؛ فلدواعي النظام، ولتجنب التزاحم داخل الكنيسة، أبقوا حارسًا أمام الباب الموصد المفضي إلى باحة الـ “سيستين تشابل”، فلبثنا منتظرين خارجه، حتى انتهت المجموعة التي سبقتنا من مشاهدة الكنيسة والطواف حول جدرانها. ثم فتح الحارس البوابة، فإذا ببهو الكنيسة خال تماما، حتى ملأناه نحن، ثم أوصدوا الباب خلفنا، وهكذا… واكتشفنا أيضًا أن باب الخروج كان عند الناحية المقابلة من الكنيسة. إذن فلقد تبينا استحالة لقاء كانديد ها هنا، إذ الجميع في حركة دؤوبة، ما بين الدخول والخروج من البهو!
أما عن الـ “سيستين تشابل”، ففاق حسنها وزهوها كل التصورات التي كنت قد أعددتها في ذهني، من بعد مطالعتي للكتيبات التي وزعوها علينا عند مدخل المتحف. تعجبت من معلومة تفيد بأنها بنيت بنفس المقاييس المذكورة في الكتاب المقدس لهيكل الملك سليمان. جدرانها كانت غاصة بالأعمال الفنية الباهرة التي تصور مشاهد من سفر التكوين في ناحية، ومن حياة السيد المسيح من الناحية الأخرى، وهي مشاهد مستوحاة من كتابي العهد القديم والجديد من الإنجيل المقدس. كما تتدلى أبسطة حائط مرسومة متفرقة، تغطيها نقوش لستائر من ذهب وفضة. أما السقف الأسطواني البالغ الارتفاع، فهو مقسَّم لعدة مربعات ومستطيلات ومثلثات، رسمها مايكل أنجلو بالألوان الجصية (الفرسكو)، بداية من لوحة خلق آدم الشهيرة، ثم آدم وحواء، ثم فلك نوح والفيضان، مرورًا بموسى ونخبة من الرسل والأنبياء، وحتى لوحة يوم الحساب الأخير التي تصل ما بين السقف وهيكل الكنيسة. شعرت لرؤية سقف كنيسة الـ “سيستين” أنّ الله قد أرسل نفحة من روحه، وزرعها في عقل الفنان الإيطالي البارع ويده، ليسجل للتاريخ، عبر الأجيال المتعاقبة، قصة الخلق، وسر علاقة الله بالإنسان منذ الأزل، ومدى قدرة الخالق والمخلوق على السواء.
أما عن كانديد، فلم يكن من الممكن أن نجده هنا، داخل هذه الكنيسة بالذات.
بغتني خاطرٌ بأنني نسيت سيسي في خضم ذلك الجمال. تلفَّت حولي، ولكن لم ألمحها. شهدت أمير وزياد بين الجمهور المتلاحم، ولكنني لم أجد سيسي لأوّل وهلة. بيد أنني أعدت البحث بتأن، إذ كنا على وشك إخلاء القاعة، لتبدأ دورة جديدة، وحشد مستحدث يملأ فراغ القاعة من بعد أن نخليها. هناك، عن بعد، لمحتها ملتصقة، في حالة من الرعب، بالجدار الجنوبي للكنيسة، لا تدري معنى لوجودها وسط ذاك الجمع المتلاصق، يدفعونها دفعا هنا أو هناك، دون أن تدري لأيٍّ من ذاك سببًا. لكنني لم أجد سبيلًا للمرور عكس التيار المتدفق، لكي أتوجه نحوها. أقصى ما استطعت أن أفعله، هو أن أنادي زياد المتعملق فوق رؤوس الحشد، وأهتف به أن ينقذ سيسي، مشيرًا نحو مكانها، بجوار الحائط وراءنا.
وبالفعل تمكن زياد من شق مسار له، باتجاه الجدار أوّلا، ثم للخلف، معوِّلا على ضخامته وقوة بنيانه، حتى وصل إلى المسكينة التي باتت ترتجف من قسوة الموقف الذي وجدت نفسها تجابهه وحدها.
تجمّعنا كلنا في القاعة الملحقة ببوابة الخروج. صارت سيسي تبكي، لأوّل مرة منذ التقينا بها في بودابست. أخذت أهدّئ من روعها، وأعتذر لها عن تركها خلفنا، وتفكرت أن أصف لها مقدار الجمال الذي صرفني عن الاهتمام بها، ولكني تداركت نفسي، لئلا أضيف إلى حزنها، أساها لعجز بصرها.
على أيّ حال، استعادت سيسي جأشها بعد لحظات، فتماسكَت، وكفَّت عن النحيب. ولدهشتي، اقتربت مني متسائلة ما إذا كانت “سيستين تشابل” تستحق كل هذا العناء! فأومأت بالإيجاب، لكني أدركت أنها لم تر إيماءتي، فقلت:
“ما لم تره عين، وما لم يخطر على قلب بشر، هو ما شهدناه في تلك الكنيسة، يا سيسي. لو قُدِّر لي أن أفقد بصري الآن، في هذه اللحظة بالذات، فحسبي أني رأيت الـ ’سيستين تشابل‘.” صمتُّ لحظة وأنا أتفكر، ثم وجدتني أقول: “ولكن، كيف أستطيع مساعدتك عندها؟ الكتاب يقول: ’إِنْ كَانَ أَعْمَى يَقُودُ أَعْمَى يَسْقُطَانِ كِلاَهُمَا فِي حُفْرَةٍ‘ إذن فلابد أن أبصر من أجلك يا سيسي. يجب ألا نسقط أبدًا. أنا آسف حقًا، وأعترف بكوني مقصرا في حقك، لأني تركتك وحدك داخل الكنيسة، وأعدك ألا يتكرر هذا الأمر مجددًا!”
وهنا سأل أمير مستغيثًا:
“ماذا عن كانديد؟ لم نجده حسب الاتفاق الذي تركه لنا في رسالته. وليست لدينا أدنى فكرة عما يمكن أن نفعل الآن!”
خشيت من أن يتطور الاضطراب بأمير، فتجتاحه الأزمة النفسية المعهودة، فيفقد السيطرة، ويهتاج ويهذي بين ذلك الجمع الغفير. لكنني ـ مع ذلك ـ لم أجد إجابة عن سؤاله. تطلعت نحو سيسي، وزياد ملتمسا أن يبادر أحدهما برأي سديد، أو فكرة صائبة.
وما هي إلا أن انطلقت سيسي كعادتها، تفنّد الأمر بصوت عال:
“موقفنا شبيه جدًا بموقف كانديد، أيها الأصدقاء. فهو اعتزم لقاءنا بصحن الكنيسة، كما نشدنا أن نلقاه هناك بالضبط. ولقد فوجئ هو مثلنا تمامًا، باستحالة ذلك لسبب تدفق حشود السائحين. إذن فالسؤال هو ماذا فعل كانديد، أو ماذا سوف يفعل، إن كان لم يأت بعد؟”
تنهد أمير، مُبديا بعض الارتياح لكلماتها. لمحته فرحبت بالفرج، وشكرت سيسي في نفسي.
عقد زياد ذراعيه أمامه، وهو يتساءل:
“لو كان كانديد شخصية طبيعية، أعني لو كان شخصًا معاصرا مثل أيّ منا، لتيسر الأمر. إذا تواعدت مع صديق لي على اللقاء هنا، ثم تعذَّر ذلك اللقاء لأيّ سبب كان، فمن البديهي أن أتوجه إلى المطعم الموجود بداخل كل متحف، وأنتظر حتى ألقاه هناك. ولكن هل يفكر كانديد مثلنا، أو بالحريّ هل كان أناس القرن الثامن عشر يفكرون هكذا؟”
فعقبت سيسي على الفور:
“على العموم، لا مجال هنا لمناقشة صحة تلك النظرية من عدمها، فليس أمامنا بالفعل سوى أن نتجه نحو المطعم، وهناك سيتضح كل شيء، وسوف نتبين إن كان للمنطق سِنّ، أم إن المنطق واحد عبر الزمن!”
أضفت أنا:
“إذن، فلتبحث عن المطعم فوق الخريطة يا زياد…”
وبالفعل فرد زياد الخريطة أمامه، وشرع يدور حول نفسه ليتخيل موضعنا، بالنسبة إلى الكنيسة التي أصبحت خلفنا. التصق أمير به وصار يوجهه كذلك، ثم قال زياد أخيرًا:
“لو سرنا هكذا…” وأشار بيده للأمام، ثم أكمل: “وعند نهاية الممر، نتجه يسارا أوّلا، ثم يمينا، سوف نجد المطعم، وهو ليس بعيدًا عن كاتدرائية القديس بطرس، مقبرته، وأكبر كاتدرائية في العالم، فربما نعثر على صديقنا الزئبقي هناك، فهو مغرم بالكاتدرائيات!”
وكعادته ثار أمير من سخرية زياد، إذ بات متأكدًا الآن من أنّ كانديد كان يتجنب لقاءنا بسبب زياد.
ورغم أن النهار لم يكن قد انتصف بعد، فإن خطواتنا كانت ثقيلة، وكأننا نخشى مغبة أن نصل إلى المطعم، ولا نجد ضالتنا.
« البحث عن كانديد »: الجزء الثاني عشر، الفصل الحادي عشر