ِاعتادت موسكو، في أفغانستان أو سوريا أو غيرها من مناطق النزاع، أن تبقي نواياها وأفعالها مبهمة من خلال تصريحات كاذبة عن الانسحاب.
حتى الآن، وعلى الرغم من التنبؤات القاتمة، لم تقم روسيا بعد بغزو أوكرانيا. فقد صرّح سفير روسيا لدى “الاتحاد الأوروبي” فلاديمير تشيجوف لصحيفة “دي فيلت” قائلاً: “أؤكد لكم أنه لن يحصل أي هجوم يوم الأربعاء [16 شباط/فبراير]”.
بعد أن دفع الكرملين الأمور إلى حافة الحرب، يتحول الآن إلى موقف أكثر تصالحية، حيث قال وزير الخارجية سيرغي لافروف في إشارة إلى المفاوضات مع الغرب: “أعتقد أن إمكانياتنا لم تُستنفد بعد، وأَقترِحْ أن نستمر بها ونكثّفها”. وفي غضون ذلك، أخبر وزير الدفاع سيرغي شويغو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن بعض التدريبات العسكرية الروسية قد انتهت وأن البعض الآخر سينتهي قريباً.
روسيا لعبت ورقة الانسحاب من قبل
على الرغم من التفاؤل الحذر في الغرب بأن روسيا بدأت فعلاً بالانسحاب، إلا أن هذا التفاؤل في غير محله. فقد سبق أن شاهدنا هذا الفيلم في الماضي.
ففي آذار/مارس 2016، على سبيل المثال، أعلن بوتين انسحاباً جزئياً لـ “الجزء الرئيسي” من القوات المسلحة الروسية من سوريا، بعد أقل من عام واحد على تدخّل روسيا في البلاد لدعم النظام المتعثر للرئيس السوري بشار الأسد. وحين أعلن بوتين عن “الانسحاب” الأول، نقلت صحيفة “نيويورك تايمز” عن مسؤولين أمريكيين قولهم إن بوتين “وصل إلى نقطة تحوّل في حملته، حيث فاقت التكاليف المحلية والدولية لبقائه في سوريا على استمرار مشاركته [في الحرب]”.
وفي عام 2016 أيضاً، بدا أن مساعد وزير الخارجية الأمريكي فيليب غوردون قد أخذ إعلان الانسحاب الروسي من سوريا على أنه حدث مسلّم به. فقد وثق بنيّتها ولكنه لم يتحقق منها. ولم يحصل أي انسحاب حقيقي. ثم في العام التالي، أعلن بوتين عن انسحاب كاذب آخر من سوريا فقط لترسيخ الوجود الروسي في البلاد. ومن المفارقات أن بوتين يستخدم اليوم القواعد البحرية والجوية الروسية المعززة في سوريا للضغط على أوكرانيا.
وفي الواقع أن إعلانات الانسحاب الكاذبة تجدي نفعها بالنسبة إلى روسيا. فبعد الغزو السوفياتي لأفغانستان عام 1979، كان الكرملين يعلن بانتظام عن “عمليات انسحاب” للتشويش على الدبلوماسية والتعتيم على نواياها الفعلية. وعشية قمة عُقدت في كانون الأول/ديسمبر 1987 بين الرئيس رونالد ريغان ورئيس الوزراء السوفيتي ميخائيل غورباتشوف، سألت صحيفة “وول ستريت جورنال”: “كم مرة يمكن للسوفيت أن يعلنوا انسحابهم من أفغانستان دون أن يغادروها فعلياً؟”
وبخلاف الغرب، لا تفصل روسيا بين الدبلوماسيين والعاملين في السلك العسكري. وهذا هو السياق الذي يجب أن ينظر من خلاله صانعو السياسات إلى التحركات الروسية الأخيرة في أوكرانيا. فالحرب مستمرة في عدة مجالات، ويؤكد رئيس هيئة الأركان العامة الروسية فاليري جيراسيموف على نسبة الوسائل العسكرية إلى غير العسكرية بأربعة إلى واحد، حيث تدعم الأعمال والأنشطة الدبلوماسية والمعلوماتية والعسكرية والاقتصادية بمجملها الأهداف السياسية للدولة الروسية. وتستخدم موسكو نهجاً “يَستهدف الحكومة بأكملها”، وهو أمر، للمفارقة، لم يسعَ الغرب إلى مضاهاته.
إنّ إدارة بايدن محقّةٌ في عدم تصديقها الوعود الروسية بالانسحاب من حافة الهاوية وفي تشديدها على عدم وجود مؤشرات على وقف تصعيد حقيقي على الأرض. وحقيقة الأمر هي أن التحركات الدبلوماسية والعسكرية الأخيرة لموسكو قد لا تكون إلا ضرباً آخر من الخداع. فمن الممكن أن يمهّد بوتين ولافروف الطريق من خلال الإشارة إلى وقف التصعيد وإظهار رغبة في تخفيف التوترات، ولكنهما يكونان فعلياً بصدد التخطيط لعملٍ مسبّب يبرر اجتياح أوكرانيا. وربّما اقترب بوتين بالفعل من نقطة اللاعودة حيث لا يمكنه الخروج من المسألة الأوكرانية خالي الوفاض؛ وبما أن الغرب لن يلبّي – وعن وجه حق – مطالبه المتطرفة، فلن يكون أمامه خيار سوى التحرك. أو ربما لا يزال أمامه متسع من الوقت للانسحاب – مؤقتاً. ومع ذلك، لا يُظهر بوتين أي بوادر بالتخلي عن هدفه النهائي المتمثل في خوض الحرب الباردة لكن بنهاية مختلفة، وتقويض سيادة أوكرانيا. وفي كلتا الحالتين، لن تنتهي هذه الأزمة بإعلان الانسحاب والتعامل باحتيال مع الدبلوماسية.
آنا بورشيفسكايا هي زميلة أقدم في معهد واشنطن ومؤلفة الكتاب “حرب بوتين في سوريا: السياسة الخارجية الروسية وثمن غياب أمريكا“. وقد نُشر هذا المقال في الأصل على موقع “ناينتين فورتي فايف” (19FortyFive).