كيف تنشأ النخب؟ بداية، لا إمكانية لنشوء نخب اجتماعية مستقرّة، وذات تقاليد، سواء أكانت ثقافية أم سياسية أم اقتصادية، دون الاستقرار والسلم الأهلي. وبداية، أيضاً، لا إمكانية لنشوء نخبة اجتماعية، مِنْ كل ما ذكرنا، دون تراتبية. وقد يحتاج الأمر عقوداً طويلة لبلورة حقول ذات صلة.
لذا، تتسم فترات الانتقال الثوري من نظام إلى آخر بقدر كبير من الفوضى والاضطراب، ولا يخلو الأمر من مذابح في حالات كثيرة، لأن صعود فئات اجتماعية جديدة إلى مركز السلطة، وانتزاعها لامتياز النخبة، يستدعي القضاء على، أو إخضاع، نخب سابقة. وهذا لا يحدث بطريقة ودية، كما تعلّمنا من ثورات من عيار تاريخي ثقيل كالفرنسية، والروسية، والإيرانية.
من الأمثلة القريبة ثورة الضبّاط الأحرار على الملكية في مصر. لم تشهد البلاد مذابح، ولكن صعود العسكريين إلى موقع نخبة السلطة، وصنّاع النخب في كل حقل آخر، ترك أثراً دائماً على كل أوجه الحياة في مصر، وبلدان عربية تأثرت بالنموذج المصري، وأدخل بلداً تعود فيها تقاليد الحكم المركزي، والبيروقراطية، إلى بضعة آلاف من السنين، في دوّامة بحث طويل ومؤلم عن مخرج آمن يعيد العربة إلى سكة أكثر استقامة على أرض أكثر صلابة.
والدليل، دون ذكر الرئاسات الانتقالية، أن أوّل رئيس للجمهورية (نجيب) قضى أيامه الأخيرة ما بين السجن والإقامة الجبرية، وأن ثالث رئيس (السادات) اغتيل في وضح النهار، وأن رابع رئيس (مبارك) سقط في ثورة شعبية عارمة، وأن خامس رئيس (مرسي) مات في السجن، وأن سادس رئيس، أي الحالي، يجابه تحديات يصعب التقليل من جسامتها، أو غض النظر عن سياسات القبضة الحديدية في التعامل معها.
وإذا كان هذا هو الحال في بلد من وزن مصر، فما أدراك كيف يكون الحال في فلسطين، في ظل سلسلة متلاحقة من الزلازل والبراكين والتحوّلات البنيوية، والشروخ العميقة، على مدار مائة عام، وكلها كانت ولادات قسرية وقيصرية، فأجزاء كبيرة من البلد تعرّضت للتطهير العرقي، والقسم الأكبر من السكّان تحوّل إلى لاجئين، وسُلب القسم الأكبر من الأرض، ونشأ شتات في الجوار القريب والبعيد يكاد يوازي في الوقت الحاضر الباقين في بلادهم.
ثمة ما لا يحصى من التفاصيل. وما يعنينا أن كل تلك الزلازل والتحوّلات أسهمت في زعزعة نخب، ونشوء نخب. والمشترك بينها يتجلى في وجود مؤقت، وكينونة هشّة، وحالة تشظي دائمة في جزر جغرافية وديمغرافية معزولة، ورافعة اجتماعية غير مستقرّة، وحياة قصيرة إلى حد لا يسمح بنشوء تقاليد تمتاز بالثبات والديمومة. ذلك ما حاول تشخيصه، وأخطأ، فيصل درّاج في “بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينية” حين عاد بالمشكلة إلى غياب “المثقف العضوي“، والجذور الريفية للمثقفين.
وكما في كل مكان آخر، لم يكن في وسع حقول ثقافية أن تنشأ دون علاقة من نوع ما بسلطة مركزية، بما فيها سلطة الاحتلال. فعدد من موظفي وزارة المعارف الإسرائيلية، في الجليل، صوّتوا في وقت ما للأحزاب الصهيونية، ولأحزاب قومية ـ دينية كالمفدال، للبقاء في الوظيفة. وفي دمشق وبغداد والقاهرة وبيروت وجد بعض الفلسطينيين منابر ثقافية وإعلامية وفّرت لهم، لأسباب أيديولوجية، مساحة كبيرة.
ولعلنا نعثر في خصوصيات كهذه على مصدر للنعمة والنقمة في آن. فالتشظي، وانعدام الطمـأنينة والاستقرار، لا يسمح بنشوء قيم وتقاليد ثابتة، فالقيمة الأهم هي البقاء. “بالعربي” في هذا ما يؤسس لنزعة انتهازية تكاد تكون عضوية، ويبرر الاستفادة من علاقة تأزّمت بين سلطتين في بلدين عربيين، مثلاً.
ففي الصراع بين نظامي البعث، في سوريا والعراق، تلقى بعض “المثقفين” “مساعدات” من العراق لأنه يعيش تحت سلطة البعث الأسدي، والبعض حصل على امتيازات من البعث الأسدي لأنه يعادي البعث الصدامي، ولم يندر، أحياناً، أن يستفيد هذا وذاك من هذا وذاك، ناهيك، طبعاً، عن الاستفادة من “الأخ العقيد“. شهدتُ بعض حالات الفساد “الثقافي” تلك.
ولنتذكّر أن تأييد الانشقاق في حركة فتح، وما انطوى عليه من محاولة لشق منظمة التحرير، والاستيلاء عليها، والإطاحة بعرفات، لم ينجم عن “حنبلية” سياسية وثقافية من جانب البعض، بل أملته علاقات ومصالح في دمشق. والمهم، أن في “القضيّة” ما يُمكّن البعض في الماضي والحاضر من التخفي وراء وقناعها، مع ميول محافظة ورجعية في الغالب.
أما مصدر النعمة فيتمثل في الاحتكاك والتفاعل مع ثقافات أكبر، والانخراط في حقول ثقافية أوسع، والانتقال من حقل إلى آخر، وتفادي السلطات الرقابية، بما فيها الاجتماعية وهي الأسوأ. ولم يكن من قبيل الصدفة أن نهضة الفلسطينيين، الثقافية، وثيقة الصلة بولادة حركتهم الوطنية الجديدة في أواسط الستينيات، وأن القاهرة، ودمشق، وبغداد، وبيروت، أي الحواضر والحواضن التي تنفسوا فيها، عاشت آنذاك ما ندعوه، اليوم، بالعصر الذهبي للثقافة العربية.
ومصدر النعمة أن صعود الحركة الوطنية كان جزءاً مِنْ، وترافق مع، ونجم عن، حركة التحرر القومي في المستعمرات، وصعود اليسار الجديد في العالم. لذا، لم يكن من قبيل الصدفة أن تكون البيئة التي أنجبت معين بسيسو، ومحمود درويش، وغسان كنفاني، وسميح القاسم، وتوفيق زيّاد، وإميل حبيبي، ماركسية. ولم يكن لم قبيل الصدفة أن تنشأ فصائل فلسطينية ماركسية، إضافة إلى حزب أقدم هو الشيوعي.
هؤلاء هم الذين أضفوا على الثقافة الفلسطينية نزعة راديكالية مسكونة بفكرة التقدّم، ومعادية للرجعية. حتى جبرا، تمكّنت منه نبوءة لتوينبي عن الفلسطيني كرسول للتغيير. في أسبوع قادم نتقدّم أكثر، فما نرى في قسمات الحاضر يعمّق من فهمنا لأطياف الماضي، والعكس صحيح.
إقرآ أيضاً:
في معرض الرد على رسالة الياس خوري..!!