على امتداد أكثر من نصف قرن أقمنا نظمنا الثقافية والتعليمية والتربوية والدينية والإعلامية والسياسية على فكرة محورية، شكلت العائق الرئيس لتحقيق التقدم والنهضة واللحاق بعالم المزدهرين، تلك الفكرة هي التحذير من الغزو الثقافي الغربي.
تأمل خطابنا العام الديني والثقافي والسياسي، سلطة ومعارضة، بتياراتها الثلاث: القومي والإسلامي واليساري، وعبر خمسة عقود، تجد عنصراً مشتركاً بينها، هو أننا أمة مستهدفة من قبل الغزو الثقافي بهدف: طمس هويتنا الثقافية، وإضعاف لغتنا العربية، وفرض القيم الغربية و”العلمنة” على مجتمعاتنا، والتحكم في مقدراتنا وثرواتنا، وتغريب نسائنا… إلخ.
قبل عدة سنوات نظمت رابطة العالم الإسلامي مؤتمرا، أصدر بياناً قال فيه: يرى المؤتمر أن العالم الإسلامي يواجه غزواً يستهدف هويته وثقافته واقتصاده باسم العلمانية والعولمة والنظام العالمي الجديد، وأن مهمة المؤتمر مواجهة هذا الغزو الثقافي وتصحيح صورة الإسلام.
والمفارقة المدهشة والعجيبة أنه في الوقت الذي يدعو خطباؤنا على الحضارة، ويلعنون غزوها الثقافي وعولمتها الخبيثة، ويحذرون ناشئتنا ممن يسمونهم العلمانيين المنبهرين بها “المهددين لحصوننا من داخلها”، فإننا أكثر الشعوب انغماساً في ماديتها، والأكثر استهلاكاً لمنتجاتها، وطلبا لحمايتها وممن؟ من بني جنسنا! ولاجئونا يركبون المخاطر وصولا إليها، وأصوليونا المطاردون من بلدانهم ضاقت بهم الأرض فلم يجدوا ملجأً إلا إليها!
يقول علي حرب في كتابه الممنوع والممتنع: نحن نقيم على أرض الغرب على الصعيد الحضاري والمدني. إننا مدينون له بأسباب معاشنا ومظاهر عمراننا، علماً وآلة، معلومة وصورة، سلعة ومتعة.
الآن: ما حقيقة الغزو الفكري؟
أولاً: مصطلح الغزو، مصطلح عسكري يعني القهر والغلبة، مصطلح زائف في مجال تفسير العلاقة بين الثقافات والأفكار وتفاعلها، الثقافات الوافدة ليست غزواً، لأنه لا إرغام فيها، فأنت في النهاية صاحب القرار في الأخذ بها أو رفضها، وتخويف الناس منها خطأ، لأنه يصطنع حاجزاً وهمياً بين الثقافات، بل إن الغزو الثقافي، عملية مستحيلة، فما الذي يفعله بك من يغزوك ثقافياً؟ إنه يقدم لك كتاباً أو صحيفة أو فيلماً أو معلومة معرفية أو علمية أو فكرية، أو يعرض عليك وجهة نظره في أمر سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي أو إداري أو حقوقي لتنظيم مجتمعك، وأنت صاحب الشأن في أن تقبل أو ترفض، بمعنى أن الخيار لك، لذلك فإن فكرة الغزو مستحيلة التحقيق، طبقاً لعبدالحميد بكوش.
إعجابك بنظام سياسي أو إجراء إداري أو أسلوب معين لدى الآخر المتفوق، أو اقتناعك بأفكار لها القدرة على التأثير والانتشار، سواء كان أهلها غالبين أو مغلوبين، على ما بين ابن خلدون، فاستحوذت على عقلك ونفسك، فهذا لا يسمى غزواً إلا من قبيل استيلاء الجمال أو الفكرة النافعة على الأفئدة والعقول، فهل نسمي سلطان الجمال والمعرفة غزواً؟! إنه أجمل غزو، طبقاً لعلي حرب.
ثانياً: لا وجود اليوم لثقافة صافية، لأن الثقافات في تفاعل مستمر، بل إن الثقافة الأميركية التي تكتسح العالم في شكل مطاعم الوجبات السريعة والبيبسي والكولا والبنطلون الجينز المخترق للحواجز، ما هي إلا حصيلة تفاعل ثقافات وانصهارها، وهذا مصدر التفوق الأميركي.
ثالثا: اليابان، وكوريا الجنوبية، ونمور جنوب شرق آسيا، ماليزيا، وتركيا وغيرها، أكثر انفتاحاً على الثقافات، حققت تقدمها ولم تفقد هويتها ولا ثقافتها ولا لغتها ولا تقاليدها، ولم تحكمها أوهام الغزو الثقافي كما حكمتنا.
ستظل الهوية راسخة قوية كالبصمة الوراثية، وفِي هذا يقول الأمير طلال بن عبدالعزيز في مقالة قيمة: دعوة إلى حوار هادئ حول العولمة: ألم تَر كيف حافظت اليابان على هويتها الثقافية في الوقت الذي استطاعت فيه أن تتواءم مع النظام العالمي، وأن تأخذ من الغرب نظماً في السياسة والاقتصاد؟
رابعاً: الخليج أكبر منطقة عربية معولمة ومنفتحة على الثقافات، ويحتضن 200 جنسية مختلفة الأعراق والثقافات والأديان، وبعد أكثر من نصف قرن، لا ذابت هويته ولا تلاشت خصوصيته ولا فقد لغته أو ضعفت ثقافته. المشكلة اليوم أن الخليج ازداد انكفاء وارتداداً إلى الهويات الأدنى.
ختاماً: وهم الغزو الثقافي من جملة الأوهام الحاكمة لعقلياتنا، وحجة الضعيف العاجز عن المواجهة، واحتجاج على نجاح الآخر وتفوقه بعد أن كان فاتحاً متفوقاً وفاعلاً ثقافياً في ماضي الزمان.
* كاتب قطري
الجريدة