كتب زميل الصحافة، والصديق سعد بن طفلة، مقالاً قبل أيام ودّع فيه أميركا، الدولة التي طالما أحبها، منتقداً المعاملة الخشنة التي يلقاها المسافر إليها في مطاراتها الكبرى، وكيف أصبحت أميركا، التي عرفها لعقود، تتلاشى في كل مرة يزورها.
تطرق الزميل في مقاله إلى ما أصبحت تعانيه أميركا من توترات سياسية خطيرة نتيجة الخلاف المستعر بين الليبراليين والمحافظين من جماعة «ترامب»، بخلاف مشاكلها المستعصية الأخرى المتعلقة بالانشقاقات في قضايا الإجهاض وانتشار السلاح والزواج المثلي، وغيرها الكثير، مثل اكتظاظ السجون بأكثر من مليوني نزيل، إلى آخر ذلك من مصائب!
استدرك الصديق بأنه لا يزال يشعر بالعرفان تجاه أميركا، لما تلقّاه من تعليم مميز فيها، ودورها العظيم في تحرير وطنه، واعتقاده بأنها الدولة الأجمل في العالم، ولكن نجمها قرب أفوله، ولذا قرّر إلقاء تحية الوداع عليها، مرة وللأبد!
***
ليس من الإنصاف اختزال وضع أميركا، أو «توديعها»، لأن المعاملة في مطاراتها أصبحت مهينة، أو لأن شرطتها أصبحت شرسة مع القادمين إليها من مختلف الأعراق، ولا حتى بسبب عشرات القضايا المستعصية الأخرى التي ورد أو لم يرد ذكرها في المقال، فالولايات المتحدة تعني للحضارة البشرية أكثر من ذلك بكثير، وليس هناك، في المدى المنظور، بديل عنها، أو من بإمكانه الحلول محلها! فلا الصين ولا روسيا ولا كل دول الاتحاد الأوروبي بإمكانها ذلك، فأميركا أكبر منها جميعها، فيوم حلت بالعالم كارثة «كورونا»، ولّت وجوه بشر الكرة الأرضية كافة شطر علمائها وعلومها، شاخصة بأنظارها، حابسة أنفاسها، مترقبة ما سيخرج من جامعاتها ومختبراتها الطبية من أخبار اللقاح المضاد لوباء قاتل، أدخل الرعب في قلوب نحو 8 مليارات إنسان!
لا تزال أميركا، وستبقى طويلاً، الأمل الوحيد طبياً واقتصادياً وحتى عسكرياً، فهي الوحيدة التي بمقدورها وقف ظهور «هتلر» آخر، وهذه أمور لا نعرف قيمتها عادة إلا متأخراً!
***
كان آخر زعيم سوفيتي ميخائيل غورباتشوف يستغرب كيف سبق الاتحاد السوفيتي العالم في ارتياد الفضاء، ونجح في إرسال آلاف الأقمار الاصطناعية، ولكنه فشل في صنع ملعقة لا يلتصق بها الطعام، دع عنك عجز الاتحاد وروسيا تالياً عن صنع عشرات آلاف المنتجات بجودة نصف عالية! حتى الصين، التي تحتاج اليوم، وفوراً، لأكثر من 8000 طائرة مدنية، ليس بإمكانها صنع واحدة، ذات كفاءة عالية، بغير الاستعانة بتقنيات عشرات الشركات الأميركية العملاقة.
ما تشكو منه أميركا اليوم هو الحرية، وما جعلها فوق العالم هي الحرية أيضاً، ولا يمكن قبول الحرية بغير قبول تبعاتها، بدرجة أو بأخرى.
قد تتفوق الصين اقتصادياً على أميركا، قريباً!
وقد تسبق روسيا أميركا.. صاروخياً!
وستتجاوز أوروبا أميركا عطرياً!
لكن لا طرف منها بإمكانه الحلول محل جامعاتها، ولا مراكز أبحاثها، ولا علمائها، ولا أطبائها، ولا مؤلفي رواياتها ولا أفلامها ولا فنونها ولا كل إبداعاتها، ولن تصبح أي من هذه الدول، مجتمعة أو منفردة، مصدر تنوير وإشعاع لبقية دول العالم، ولن يتقبل ثلاثة أرباع البشر ثقافة الصين أو روسيا، ولو كره الكافرون ولو أراد ذلك المؤمنون!
سيستمر كارهو أميركا في كرههم لها، وستصدح حناجر «الآيات» بتمني الموت لها، أو «مرك بر إمريكا»، وستلعنها شعوبنا مع كل صلاة فجر، ولكن في النهاية سيصطف كل هؤلاء صباح اليوم التالي في طابور طويل أمام سفاراتها، طلباً لفيزا سياحية أو لدراسة جامعية لا يجدون أفضل منها، أو لعلاج مرض لا أمل في الشفاء منه إلا عندها، أو للحصول على دواء لا يتوافر إلا في صيدلياتها، أو لمحاربة مجاعة بغذاء لا توفره إلا مزارعها!
هذه أميركا، بحلوها.. ومرها!
a.alsarraf@alqabas.com.kw