ولد البريطاني آلان تورنغ Alan Turing عام 1912 في لندن، واشتهر بأبحاثه العلمية المهمة، لاسيما رسالته العلمية التي أكد فيها عدم إمكانية وجود أي طريقة خوارزمية شاملة لتحديد القيمة الصحيحة في الرياضيات، وأن الرياضيات سوف تحتوي دائماً على مسائل غير مقررة.
شكلت أوراقه وأبحاثه تالياً الأساس للبحث في موضوع الذكاء الاصطناعي. وتدين معظم شركات التكنولوجيا في عصرنا بالفضل له، فهو مخترع أول جهاز كمبيوتر في التاريخ.ظهر نبوغ تورنغ مبكراً، ولكن حياته تغيّرت في الأربعين بعد اعترافه بعلاقة جنسية مع رجل، وكان ذلك فعلاً مجرّماً في حينه، فتم اعتقاله، واضطر تالياً للقبول بتلقي علاج هرموني للحد من رغباته الجنسية، تجنباً للحكم عليه بالسجن، ثم أُجبر بعدها على الإخصاء الكيميائي، وأصيب بعجز جنسي. ونتيجة لإدانته صودر تصريحه الأمني ومُنع من متابعة عمله في مدرسة الشيفرة والكود الحكومية، فأصيب باكتئاب.
توفي تورنغ في يونيو 1954، وأظهر التشريح تسممه بالسيانيد، وخلُص التقرير الطبي إلى وفاته منتحراً.
***
كُرِّم تورنغ مرات عدة بعد وفاته، بعد فترة وجيزة من نهاية الحرب العالمية الثانية، ومُنِح وسام الإمبراطورية البريطانية نظير جهوده العظيمة أثناء الحرب. وتدين البشرية له في التعجيل بإنهاء الحرب العالمية الثانية، عندما نجح في كسر شيفرة كمبيوتر «إنجما» الألماني، ومعرفة الخطط العسكرية للنازيين، وغير ذلك من أسرار، وأسهم ذلك في إنقاد حياة مئات آلاف الجنود على طرفي النزاع، من حلفاء ودول محور، وخلّد اسمه في التاريخ كأحد أكبر العلماء، وكان من الممكن جداً أن يكون أكثر خيراً وبركة للبشرية لو كانت بيئته أكثر تفهماً ورحمة وتسامحاً مع أمثاله، كما هي اليوم.
في عام 1999، صنفته مجلة TIME الأميركية ضمن أهم 100 شخص خلال القرن العشرين. واحتل تورنغ المرتبة الـ21 ضمن استطلاع أجرته قناة BBC حول أهم 100 شخصية بريطانية. وقد اعتُرف حول العالم بتأثيره الكبير على علوم الحاسوب.
وله اليوم تمثال بالحجم الطبيعي في حديقة بليتشلي، وآخر برونزي في جامعة سري البريطانية المرموقة.
بالإضافة إلى ذلك، اعتُبر تورنغ ثاني أهم خريج في جامعة برنستون الأميركية المرموقة، بعد جيمس ماديسون الذي يحتل المرتبة الأولى.
ومنحته الملكة إليزابيث عام 2013 عفواً ملكياً نادراً، بعد مرور 60 عاماً على انتحاره. وفي عام 2016، أعلنت الحكومة البريطانية عن «قانون تورنغ»، الذي يعفو عن الآلاف من المثليين الجنسيين المدانين!
***
كانت قضية المثلية طوال تاريخ البشرية مثار خلاف عميق وأحياناً دموي. وكان للتفسيرات العقائدية والدينية للكثير من الناس ، دورها في إذكاء ذلك العداء، من دون مبرر علمي أو طبي غالباً، باعتبار الأمر شذوذاً، وسرطاناً يستوجب الاستئصال، ولكن بعد مرور آلاف السنين، وملايين الضحايا، لا يزال هؤلاء يعيشون بيننا ونسبتهم، بين المواليد الجدد، وفي أية دولة أو مجتمع، لم تتغيّر، فهم هنا ويجب علينا التعايش معهم، وتقديم العلاج والمساعدة لهم، بدلاً من نبذهم وحرقهم، كما ورد في كتب عدة!
هذا المقال ليس دعوة لمواكبة الدول الأوروبية في تشريعاتها، ولو أن الوقت سيجبرنا على ذلك إن لم نقم به طواعية، ولكنه دعوة لأن نكون أكثر تفهماً وإنسانية مع هؤلاء. فممارسة الرفض معهم واستخدام العنف لم يفلحا يوماً، ولن يفلحا.. يوماً!
a.alsarraf@alqabas.com.kw