منذ اغتيال أحمد شاه مسعود في ٢٠٠١، قبل ٣ أيام من هجمات نيويورك في ١١ سبتمبر، وحتى هجمات باريس يوم الجمعة الماضي، مروراً بعدد كبير من أحداث العنف والإرهاب في فرنسا، كانت بلجيكا وجاليتها المغربية تشكّل ما يشكل قاعدة خلفية للأًصولية والإرهاب. الكاتب: بيار فيرميرين، أستاذ محاضر في جامعة باريس ١، يعطي خلفية تاريخية وينتهي إلى المطالبة بفتح ملف تجارة المخدرات (نقلاً عن “الفيغارو”).
*
منذ سنوات، تشير أجهزة الإستخبارات الأوروبية والمغاربية بأصبع الإتهام إلى بلجيكا التي تعيش تحت وطأة الإرهاب الإسلامي.
وتحتضن بلجيكا بؤر تطرف وتجارة مخدرات في بروكسيل، وأنفير (أنتوربين) وفي مقاطعة والونيا. وتشعر سلطات المملكة المغربية بقلق شديد إزاء تطرف مواطنيها الخارجين عن سيطرتها الذين ينحرفون نحو الجريمة المنظمة، والسَلَفية، وحتى التشيّع، في ما يشكل قطيعة تامة مع الإسلام المغربي الرسمي. ويتساءل اختصاصيو الجغرافيا حول دينامية الجالية المغربية في بلجيكا، التي تمثّّل أغلبية في منطقة تواجدها الأساسية في بروكسيل وضواحيها، وهذا مع أن بلجيكا- بعكس فرنسا وإسبانيا- لا تملك ماضياً استعمارياً في المغرب.
لماذا يعيش ٥٠٠ ألف مغربي في بلجيكا، أي ما يعادل ١ من ٢٠ من مجموع السكان، ولماذا يكثر بينهم إلى هذا الحدّ عدد المتطرّفين الخارجين عن أية سيطرة؟ إن تاريخ، وأصول، ونشاطات المغاربة في بلجيكا تفسّر أسباب نشوء معاقل سَلَفية في « مولنبيك » Molenbeek (حي في بروكسيل)، وفي « مولان دو رويسّو » Le Moulin de ruisseau.
في مارس ١٩١٢، وضعت فرنسا الإمبراطورية « الشريفية » تحت « حمايتها »، وتنازلت عن شمال البلاد، اي « الريف » لإسبانيا. وينقسم المغرب الإسباني إلى قسمين: « بلاد جبالة » الناطقة بالعربية في الغرب، وبلاد البربر في « الريف » في الشرق. إن هذه المنطقة الجبلية الفقيرة المطلة على البحر المتوسط تعيش على الإعالة وعلى تهريب البضائع، على غرار كورسيكا أو منطقة « القبائل » بالجزائر. وكان عشرات الألوف من أهالي « الريف » يبحثون عن عمل كل عام في منطقة « وهران » الخاضعة لحكم فرنسا، إما في كروم العنف أو في المناجم. وكان الإسبان يغضّون النظر. لكن، حينما قرّر الإسبان، بعد الحرب العالمية الأولى، أن « يُخضعوا » المنطقة، فقد تعرّض جيشهم لمجزرة في « أنوال » في يوليو ١٩٢١ (١٢٠٠٠ قتيل). وبفضل الأسلحة التي غَنَمها، أعلن عبد الكريم « جمهورية الريف ». وخلال ٥ سنوات، شنّت إسبانيا حرباً لا هوادة فيها ضد « الريفيين »، بل واستخدمت ضدهم « غاز الخردل الذي حصلت عليها بأسعار منخفضة من ألمانيا. ولكن كل جهودها لم تفلح في إخضاع « الريفيين » الذين وسّعوا حربهم إلى المغرب الخاضع للحماية الفرنسية. وقّررت الحكومة الفرنسية عزلَ الماريشال « ليوتي» على وجه السرعة، واستبدلته بالماريشال « بيتان »، الذي حشد أسطولاً فرنسيا-إسبانياً حديثاً جداً قام بإنزال في « الحسيمة »، في ما يمثّل سابقة لعمليات الإنزال التي قام بها الحلفاء في يونيو ١٩٤٤. بعد ذلك، عاود ألوف الريفيين هجرتهم الموسمية إلى منطقة « وهران ». ولكن الجنرال فرنكو نجح في استخدامهم، بعشرات الألوف، في حربه بإسبانيا، لتنظيف الخنادق والمدن الجمهورية ولإخضاعها بالحديد والنار.
حينما تسبّبت حرب الجزائر بالحدّ من الهجرة نحو الجزائر ثم بحظرها كلياً في ١٩٥٦، فقد حلّ البؤس في البلاد، الأمر الذي دفع الأكثر جرأة نحو الهجرة إلى الشمال. وفتحت صناعة الفحم في شمال فرنسا أبوابها لتوظيف ألوف المغاربة القادمين من « الريف »، إلى جانب أبناء منطقة « القبائل » الجزائريين. لكن، بعكس أبناء منطقة « القبائل » الذين جاؤوا من المنطقة الأكثر طلاقة بالفرنسية في الجزائر، فإن أهالي « الريف » كانوا يتحدثون البربرية، أو حتى الإسبانية، ولم يكونوا يعرفون سوى الحد الأدنى من الفرنسية. وقد انغلقوا على دينهم المتقشّف والمحافظ، الذي لم يتأثر بحركة الإصلاح الإسلامي التي عمّت المغرب الخاضع لفرنسا. والأسوأ أنه، عند حصول المغرب على استقلاله، فقد ثار « الريف » مطالباً بحرياته ليجد نفسه تحت وطأة حربٍ شرسة شنّتها عليه القوات المسلحة الملكية بقيادة الجنرال « أوفقير » والحسن الثاني (قبل أن يصبح ملكاً)، في ١٩٥٨ و١٩٥٩، بموازرة الجيش الفرنسي. وهذه المرة، تعرّض « الريف » للقصف بالنابالم. وسقط ألوف القتلى. وبلغ الحقد المتبادل بين أهل الريف وملك المغرب أنه طوال حكمه الذي استمرّ ٣٨ عاماً، فإن « الحسن الثاني » لم يطأ منطقة الريف، وحجب عنها الإستثمارات والتجهيزات. ولم يترك لها سوى احتكار « الكيف » (الحشيش) الذي منحها لها والده.
وبعد أن وجدوا أنفسهم مهملين ومهمّشين، فقد هاجر « الريفيون » مثلما فعل أسلافهم. فاستقروا في شمال فرنسا، ثم في « والونيا »، وأخيراً في منطقة « الفلاندر » وفي هولندا، التي كانت جميعاً تعيش ازدهاراً إقتصادياً. وبلغ غدد « المغاربة »، ومعظمهم من « الريف »، ١،٥ مليون نسمة في بلجيكا وهولندا وشمال فرنسا في العام ٢٠١٥. وكان « الكيميائيون » الكورسيكيون الذين انتقلوا إلى « الريف » المغربي بعد سقوط « الشبكة الفرنسية » (French Connection) في ١٩٦٨ قد حوّلوا القنّب إلى معجون صالح للتصدير. وتبعت تجارة الحشيش نفس خط هجرة « الريفيين»، وفتحت أبواب الأسواق الأوروبية في إسبانيا، وفرنسا، ودول البنلوكس. وعبر « أنفير »، تحوّلت بلجيكا إلى محور لتجارة الحشيش. وباتت التجارة وتهريب المخدرات متلازمين، وسمحت تلك النشاطات بتعويض عمليات التسريح الواسعة النطاق التي طالت عمال المناجم وصناعة الحديد والصلب وعمال النسيج. ويتمركز المغاربة في أحياء تكاد تقتصر عليهم في « روبيه »، و « توركوان »، و « بروكسيل-مولنبيك »، و « روتردام » و « لييج »… وقد اتّجه قسم من تلك الشبيبة البلجيكية التي عانت من البطالة نحو الأصولية الدينية، في حين أن الشرطة البلجيكية لم تكن تملك أية خبرة في الموضوع، بعكس الشرطة الفرنسية التي كانت تملك خبرة أكبر، والتي سمحت لأجهزة الأمن المغربية بالعمل بين مواطنيها المغتربين.
حياة متقشّفة منذ عهود طويلة، وثقافة منغلقة على نفسها، وعداء عميق الجذور للنظام المغربي وللإسلام الرسمي، ورفض للدولة شبيه بحالة جزيرة صقلية الإيطالية، وحريات دينية مفتوحة لكل النزعات، وشبكات مافيوية باتت منظمة بفعل ٤٠ سنة من التجارة (حجم المبيعات السنوية ١٠ مليار دولار) وتعمل لصالح مافيات « الريف » والمستفيدين منها في المغرب وفي بلجيكا وهولندا، ثم حرية الحركة التي أتاحها إلغاء الحدود الأوروبية مع معاهدة « شينغن »، وعدم وجود مراقبة بوليسية فعالة- وهذا كله علاوة على سوابق تاريخية كارثية، وتذمر ونقمة، وثقافة عنف وسط بيئة معادية، وبطالة واسعة النطاق: إن خلفية منطقة « مولينبيك » تعود إلى تاريخٍ طويل. وقد تكون الهجمات الإرهابية التي وقعت في باريس قبل أيام مناسبةً لكي تُطرَح لأول مرة قضية « إقتصاد المخدرات ».
PIERRE VERMEREN : Comment la Belgique est devenue le sanctuaire du désastre 0