إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
(نسخة لأحدى القراءات القرآنية في قصر (طوپقپو سرايى) في استانبول)
إذا أردنا إعادة بناء الماضي بكل وقائعه و زواياه، وكما كان عليه زمانه ومكانه، للوصول إلى الحقيقة التاريخية، فنحن نحتاج إلى ثقافة حيادية واعية وتَتَبُّع دقيق بحركة الزمن التي تؤثر بصورة مباشرة أو غير مباشرة على النص التاريخي، ويجب ربط المنهج التاريخي بمستويات النقد في التفسير والتأويل والتنقيح والحكم في كل مراحله.
و معظم المؤرخين المسلمين الذين كتبوا التاريخ الإسلامي في عصر الخلافة الإسلامية سيطرت عليهم الأيديولوجيات الدينية والسياسية السائدة، ودَوَّنوا الوثائق التاريخية بطريقة فيها انحياز كامل للمرحلة التي كُتِبَت فيها، لا تُعبر عن حقيقة ما جري من أحداث. ليس هذا فقط، بل كتبوا عن غرائب وعجائب واساطير لا يمكن ان يُصَدقها عاقل، ولم تَتَعرّض للتحليل والنقد والتصحيح او الحذف طيلة الـ 1400 عاماً، ولا يمكن في أيُ حال من الاحوال الاعتماد عليها كمصدر لدراسة الماضي! فكتاب « تاريخ الطبري »، تأليف محمد بن جرير الطبري المتوفي 310هـ، المُسَمىَّ [ تاريخ الأُمم والملوك ] لا يزال إلى اليوم مصدرا أساسيا للسيرة النبوية والتاريخ الإسلامي بشكل عام على الرغم من مرور أحد عشر قرناً على تأليفه. وهو الذي يقول عنه ابن الأثير أنه (« أوثق من نقلَ التاريخً »)، ويثني عليه أبن تيمية قائلاً (« وأما التفاسير التي في أيدي الناس فأصحّها تفسير محمد بن جرير الطبري، فإنه يذكر مقالات السلف، بالأسانيد الثابتة، وليس فيه بِدعة، ولا ينقل عن المتهمين »). وكذلك يقول عنه السيوطي ( « الإمام محمد الطبري رأس المفسِّرين على الإطلاق »).
هذا الكتاب يحتوي على أباطيل واساطير وأحاديث عجيبة منسوبة الى رسول الإسلام لا تتماشى مع متطلبات واهداف البحث العلمي والتاريخي. ففي هذا الكتاب (تاريخ الأُمم والملوك، طباعة بيت الأفكار الدولية في السعودية, ويتكون من 2260 صفحة) يتحدث ابن جرير الطبري عن (بدء الخلق!) ويقول في صفحة 18«أن الله كان عرشه على الماء وأول ما خلق هو القلم، فقال له اجرِِ، فجرى القلمُ بما هو كائن »!
ويقول في الصفحة 22 « إن الله بدأ الخلق يوم الأحد، فخلق الأرضين في الاحد والإثنين, وخلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والاربعاء، وخلق السموات في الخميس والجمعة، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة فخلق فيها آدم على عجل ». ويستطردُ قائلاً في الصفحة 33 بأن الملائكة قبيلة من الجن وكان ابليس منها وكان له ملك السماء الدنيا والارض وما بين ذلك!
وينقل في الصفحة 41 بأن ابليس هذا دخل في جوف (بَعِير) فدخل الجنة، واخذ فاكهة من الشجرة التي نهى الله عنها آدم وحواء، فأغراهما وأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما، وأَخرجهما الله من الجنةِ، واسقطَ قوائم البَعِير وصار حية (ثُعْبان).
ويكمل حديثه عن آدم بعد هبوطه الى الأرض من الصفحة 45 الى 47 « ان آدم عند هبوطه كان طويلاً لدرجة انه كان يمسح رأسه بالسماء فأُصيب بالصلع واورث الصلع، وكان بإمكانه سماع اهل السماء ودعائهم فهابته الملائكة حتى شكت الى الله في دعائها، فنقص من طول آدم الى ستين ذراعاً. »
ويَتَسَاءلُ المرء، كيف يمكن ان يكون هذا الكتاب “عُمدة التواريخ” كما يُقال..؟
وكيف يعتبره الشيوخُ ورجالات الدين صرحا معرفيا تاريخيا هائلا لا يمكن الاستغناء عنه بحال من الأحوال؟
كيف يمكن لأي باحث عربي او اجنبي استخدام « تاريخ الطبري » الذي دُوِّنَ قبل أحد عشر قرناً كمصدر تاريخي وهو في معظمه روايات قائمة على مجرد تخيلات دون وجود سبب عقلي أو منطقي مبني على العلم والمعرفة، واحاديث خرافية ما زالت الأجيال تتناقله دون أيُ نقد او مراجعة!
وهذا ينطبق على ما دَوَّنه مشاهير المؤرخين المسلمين كـ« اليعقوبي » و« المسعودي » و« ابن الأثير » و« ابن حيان القرطبي » و« البلاذري » و« الواقدي » و« ابن الجوزي ».
وحيث لا يتوفر أي مصدر موثوق معتمد عليه لمعرفة بدايات الاسلام وتاريخ القرآن كأقدم مصدر له، احاول في بحثي هذا معالجة مسألة نشوء القراءات القرآنية وتطورها التدريجي عبر الفترات الزمنية الى ظهور القرآن القياسي الذي بين ايدينا، مستخدما اسلوب (البحث التاريخي المقارن) Comparative historical research لترتيب الافكار والاحداث التاريخية ترتيباً عقلانياً للوصول الى تفسيرات منطقية تُبَيَّن لنا حقيقة (القرآن) بعيداً عن المسلمات الإيمانية.
وللحديث بقية………