لو بحثنا عن تعريف بسيط وشعبي للسياسة لقلنا ان السياسة هي فن خدمة المجتمع. وهنا نحدد اساسين جوهريين للسياسة لا تقوم بدونهما: الاول، ان السياسة إرادة او رغبة في الخدمة، خدمة مجتمع ننتمي له، وثانيها ان السياسة فن وبالتالي هي علم، فلا فن حقيقي بدون علم.
وفي المقابل لو بحثنا عن تعريف مضاد للسياسة لوجدنا ان المباشرة والعفوية هما اكثر ما يؤذيان الفعل السياسي او هما ابعد ما يكونا عن السياسة، وهنا يتحدّد بالضبط احد الفروقات الكبرى بين السياسة والثورية،
وفي خضم الثورة السورية، وفي ظهور اول شكل سياسي يعبر عن الثورة ويمثلها سياسياً، انحرف المجلس الوطني السوري باتجاه الشعبوية، في الوقت الذي كان المطلوب من المجلس ان يعبّر عن مطالب الثورة بطريقة سياسية فيها عقل لخدمة الثورة وليس بطريقة عاطفية تؤذي الثورة ومن ثم تؤذي سورية في المحصلة
ليس المطلوب من السياسي الثوري ولا من السياسي التقليدي ان يكون مجرد ببغاء او بوقاً للثورة، بل مطلوب منه ان يكون عقلا سياسياً اي براغماتياً. ليس المطلوب من المعارض التقليدي او الثوري ان يكون منفعلا، بل أن يكون فاعلا سياسياً.
ليس فقط غياب البراغماتية عن المعارضة السياسية السورية، بالاخص “الائتلاف” ومن قبله :المجلس الوطني”، هو ما يلحظه المرء في اداء هذه المعارضة بل ايضا غياب العقل. السياسة بما هي حيوية عقلية تستخدم الحدث لتحقيق الهدف وتصرّح بما يخدم وتصمت عمّ لا يخدم، فالمعرفة السياسية لا تكون معرفة إن لم تكن في هذا السياق الوظيفي الوطني.
لكن معرفة ما يخدم وما يضر الوطن، تحتاج الى عارف سياسي يلم باشياء من علوم وفنون إضافة لحدس وخلق، إضافة لامتلاك الخبرة …
أمثلة على اللاعقل السياسي للمعارضة السورية:
وضعت المعارضة والشارع الثوري بشار الاسد في ذهنهم وبنوا كل استراتجيتهم السياسية والثورية على اساس اسقاطه. قبل ذلك كان هناك مطلب اسقاط النظام، وفي السنة الاخيرة صارت مسالة طرد بشار ومحاسبته فقط هي جوهر هذه الاستراتيجية. وفي حال طالت الازمة السورية فسوف تتراجع المعارضة عن هذه الاستراتيجية الى استراتيجية جانبية او جزئية بما يخص بشار الاسد
والحقيقة أنه حين وضعت المعارضة هذا المبدأ الاستراتيجي كأساس لكل ادائها فقد وقعت في مطب الخواء السياسي والتكرار الخطابي والعقم الفكري لأنها لم تقدم مشروعا متكاملا لطريقة اسقاط النظام اولاً ومن ثم لإسقاط بشار الاسد. لقد تحول مطلب المعارضة هذا الى حلم ومن ثم الى كابوس عليها وعلى الشعب السوري نفسه، لأن هناك آلاف التفاصيل المغيبة عن لاعقل المعارضة السياسية التي تستوجب التفكير فيها والعمل لأجلها وصولا لإسقاط النظام او اسقاط بشار الاسد …
تشرنقت المعارضة حول هذا المطلب وتحللت كل خيوطها حتى الذوبان. غير انها في هذه المرحلة وكما جرى في التاريخ مرارا، فإن المعارضة صارت منسجمة مع عدوها حتى انها وقعت في مطب “عقدة استكهولم” في العمق بحيث تخلت مؤخرا عن مطلب اسقاط بشار ووافقت على استمراره في السلطة الى حين تأسيس حكومة انتقالية برئاسة فاروق الشرع كما اقترحت المعارضة على موسكو قبل ايام …
طفولة المطلب، وغياب العقل، والاشتغال الفكري والسياسي بغياب المهمات، ادى الى ضمور في عضلات المعارضة وادى الى ارتهانها الى التكرار والبساطة والسطحية وانعدام المسؤولية بغياب العمل اليومي والمهمات اليومية التي يفترض على المعارضة ان تنجزها الامر الذي ادى بمجموعه وكليته الى ترهل المعارضة ومن ثم فسادها ولاحقا الى تبعيتها الى العقول السياسية التي تفكر وتفعل وتأمر، اي الى القوى الاقليمية التي دعمت المعارضة بالمال والموقف في مقابل سلبها القرار والموقف …
هذا يذكر بتجربة “فتح” التي رفضت اتفاقا عرضه الاسرائيليون عليها قبل عقود غير انها عادت لتطالب بعد عقد واحد بنفس ما عرضه الاسرائيليون عليها، لكن الاسرائيليون رفضوا تقديم ما قدموه لها قبل عقد ….
من جانبه الشعب السوري في الداخل تخلى منذ سنتين تقريبا عن مطالبه كلها تقريبا مقابل وقف الحرب والموت والحصار والجوع. نقول هنا الشعب السوري/ اي المدنيين الذين يدفعون ثمن الحرب الاهلية على جانبي الصراع، وليس العسكر او المقاتلين او حتى النخبة السياسية لدى الطرفين في الداخل
هذا الموقف من الشارع تتحمله المعارضة فقط، فالشارع هو من دفع اثمان اللاعقل السياسي للمعارضة وللفصائل الثورية
أما تبدل موقف المعارضة فيعود في اعتقادنا الى ضغط دول اقليمية على المعارضة إضافة لعامل ضعيف يتعلق بتحسس إنساني من اعضاء في المعارضة لوضع الشارع السوري الكارثي .
صدق برنارد شو حين قال مأساة اي شعب سببها ان السلطة تقع في يد العاجزين من ابنائه، ونزيد هنا مأساة السوريين أن السلطة تقع في يد جاهلين واحيانا تجار، كأن مأساة سورية ستتكرر دون توقف من النظام الكارثي الى المعارضة الضعيفة والتابعة …