أصبح يوم الرابع عشر من مايو 2018 علامة فارقة في تاريخ الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وكرّست كبرى الصحف الأميركية صورا في صفحاتها الأولى لمجزرة ومواجهات غزة التي دارت ذاك اليوم، وفي المقابل لم تهتم بصور مناسبة نقل السفارة الأميركية إلى القدس بحضور ابنة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إيفانكا ترامب وصهره جاريد كوشنير. وفي ما يتعدى رمزية الحدثين يتبيّن استحالة بقاء الوضع القائم إلى اللانهاية.
بالرغم من ميزان القوى المختلّ لصالح إسرائيل، خسرت الدولة العبرية معركة الصورة ويبدو واضحا أن الجيل الفلسطيني الجديد متمسّك بالحلم، وأن الانقسامات الفلسطينية وحالة حركة التحرر الوطني الفلسطينية المزرية لا تدفع الفلسطينيين إلى اليأس والتخلي.
وبالفعل ربما كان هناك رهان على تهميش المسألة الفلسطينية في زمن التفكك العربي والفوضى غير الخلاقة والتدميرية وتكاثر الحروب وانهيار الدول، لكن الوضع الراهن لم يُفقد القضية الفلسطينية مركزيتها بشكل نسبي نظرا إلى تفاعلات هذا الصراع المزمن وبعديه الوطني والديني. وفي ما يتخطى جلجلة الآلام والسقوط العملي لاتفاق أوسلو لا تبدو كل السبل مغلقة، لأن تضييع حلّ الدولتين سيكون مدمرا للطرفين على المدى المتوسط.
توقّع الكثير من المراقبين في منطقة الشرق الأوسط وخارجها أن يكون شهر مايو من هذا العام شهر كل المخاطر، لأنه إحياء الذكرى السبعين لقيام دولة إسرائيل في أبريل تزامنت فيه ذكرى النكبة الفلسطينية مع إعلان ترامب حول الاتفاق النووي مع إيران ونقل السفارة الأميركية إلى القدس ومسيرات “العودة الكبرى” انطلاقاً من غزة مع حصيلتها الدامية والمريعة.
لكن تسلسل الأحداث وإرادة حركة حماس تسجيل اعتراضها على عملية نقل السفارة إلى القدس دفعها إلى عدم انتظار يوم 15 مايو، والتركيز على الزخم في 14 مايو كي يسلط ذلك أنظار العالم على هذه المشهدية التراجيدية وهكذا غدا الرابع عشر من مايو منعطفا تبيّن فيه مدى التعبئة والاحتقان وثقل التاريخ والجغرافيا وصراع الآلهة والبشر على هذه البقعة من العالم لناحية اعتقادات الديانات التوحيدية الثلاث، ومركز استقطاب المصالح بهدف السيطرة في منطقة كانت طريق الهند الحيوية في الماضي، وأصبحت منطقة إنتاج الطاقة العالمي وممرها، ومركز تقرير في إعادة تشكيل النظام الدولي في حقبة التخبّط الاستراتيجي.
وسط المأساة الإنسانية المتمثّلة بعشرات الضحايا ومئات الجرحى من الفلسطينيين، وخلفيتها من النزوح إلى التشريد والحصار وانسداد الآفاق، ووسط المأزق السياسي بالرغم من الكلام عن صفقات تاريخية، كان لافتاً الإصرار على إبراز البعد الديني في الخطاب السياسي المواكب لمنعطف 14 مايو. فاحتفال نقل السفارة الأميركية كان أشبه بمهرجان انتخابي لدونالد ترامب ضم الكثير من الإنجيليين ومن بينهم القس روبرت جيفرس الذي قال “لا يوجد ترامب على الجانب الصحيح من التاريخ فحسب، بل إنه على الجانب الصحيح قرب الرب”.
وفِي المقابل صدرت ردود فعل كثيرة بعد حمام الدم في غزة والكثير منها يتحدث عن وعود دينية لنصرة فلسطين وزوال إسرائيل وبينها بيان رئاسة الأركان الإيرانية الذي يقول في ختامه “إن العد العكسي لانهيار الكيان الصهيوني قد بدأ (…)، وبناء على الوعد الإلهي، سيزول هذا الكيان الاحتلالي إلى الأبد في المستقبل غير البعيد”.
لكن البعد الديني لا يحجب البعد التاريخي; ففي فبراير الماضي وتقديرا لقراره حول القدس، أصدرت منظمة إسرائيلية عملة معدنية خاصة تحمل صورة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، جنبا إلى جنب مع الملك الفارسي قورش الكبير، الذي أنهى سبي اليهود في بابل قبل 2500 سنة.
وفِي عودة للوقائع الصعبة في هذا الصراع الذي يبدو عصيّا على الحل واختلطت فيه التضحيات الفلسطينية والعربية الهائلة بالتعامل مع المسألة الفلسطينية من حيث الفرص الضائعة منذ خطة التقسيم في العام 1948، إلى نكسة 1967 وانطلاق المقاومة الفلسطينية، وصولا إلى اضطرار ياسر عرفات للانخراط في اتفاق أوسلو هربا من أنظمة عربية ضيّقت عليه الخناق، ومن يراقب حجم القمع والإبادة في حرب النظام السوري على شعبه ومن ضمنه شريحة من الفلسطينيين، يتذكّر كلاما أورده بوغدانوف، نائب وزير الخارجية الروسي، الذي حذّر أمام أحد أصدقائه من “اقتداء إسرائيل بنهج النظام السوري الحربي”.
والأدهى اليوم أن الفلسطينيين المنقسمين يفتقدون قيادة جامعة تدافع عن قرارهم المستقل في زمن تفكك النظام الإقليمي العربي، وقيام قوى إقليمية بالسعي للاستثمار في الموضوع الفلسطيني لخدمة مسارات نفوذها الإقليمي قبل إعطاء الأولوية للمسألة الفلسطينية بحد ذاتها.
في هذه الأثناء يتكرّس الوضع القائم لصالح إسرائيل، وعلى الرغم من كلام نيكي هايلي، السفيرة الأميركية في الأمم المتحدة، عن عدم تغيير وضع مدينة القدس بسبب قرار انتقال السفارة، يعتبر العديد من رجال السياسة والقانون أن نقل السفارة ليس مجرد اعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وإنما هو ضمّ للقدس الشرقية وضواحيها إلى إسرائيل، ويعني الاعتراف بشرعية المستوطنات، والتوسع الإسرائيلي.
إنه التماهي الأميركي مع إسرائيل وهذا ليس بجديد. حسب العديد من المسؤولين الفلسطينيين الذين واكبوا مسارات التفاوض منذ أوسلو كان هناك شعور بوجود إسرائيل – أميركا على طاولة المفاوضات. ومن خلال مراقبة ردود الفعل الدولية يمكن أحياناً الكلام عن تناغم روسي- إسرائيلي أو انحياز أوروبي لإسرائيل. بالطبع لا ينفع البكاء على الأطلال أو عقد الكثير من المؤتمرات من أجل تسجيل المواقف من دون نتائج عملية سياسيا أو دعم فلسطينيي الداخل لتخفيف معاناتهم.
يبدو أن اتفاقا حصل بين مصر وحركة حماس يقضي بوقف تصعيد التظاهر حتى الخامس من يونيو القادم، في انتظار إجراءات لتخفيف الحصار عن غزة، بينما قامت السلطة الفلسطينية بسحب سفرائها من عدة عواصم وبينها واشنطن ولن يذهب الرئيس محمود عباس إلى القمة الإسلامية في تركيا وسيوفد رئيس حكومته. كل هذه الخطوات وأطنان البيانات تبقى قاصرة تماما إزاء حجم الخلل في ميزان القوى مع إسرائيل، والبداية لا بد أن تكون من البيت الفلسطيني الداخلي والعمل وفق منظومات أخرى من التفكير تجمع بين الواقعية السياسية والتمسّك بما هو ممكن من الثوابت. وعلى الأرجح سيرتبط الوضع الفلسطيني بمخاض إعادة تركيب الإقليم والحروب الدائرة والقادمة.