حسب المفكر الإيراني الدكتور عبدالكريم سروش فإن أبرز فكرة في المعرفة الدينية هي فكرة الله. فعبادة الله والإقبال على المعبود، محور مشترك بين جميع الأديان. لكن إدراك الإنسان لله، وطريقة الإقبال، والتوقعات إزاء مختلف الأمور، فهي متفاوتة.
بالنسبة لسروش، فإن عبارة “الله في العصر الحديث” تعني “الله لأجل الإنسان المعاصر”. فالإنسان المؤمن الذي يعيش في هذا العصر، يجب، في ظل كل ما يلف العصر من أحداث، أن يمتلك نظرة جديدة حول الله.
يعتقد سروش بأن الأنبياء عرّفوا الله للناس، لكن رأي الناس وردود أفعالهم على ذلك لم تكن متشابهة. وأحد ردود الأفعال هو رأي الفلاسفة. يرى سروش بأن الفلاسفة جلسوا في موقع الأنبياء، وقاموا بالترويج لمسائل كلامية وفلسفية وعقلية جديدة متعلقة بفهم فكرة الله. فهم ناقشوا – مثلا – مسألة إثبات وجود الله بصورة عقلية، فركّزوا على موضوع الحكمة، ونظروا إلى الله بوصفه سرّا من الأسرار التي تحتاج إلى كشف وفتح. فالله بالنسبة إليهم هو أحد المسائل الوجودية التي تحتاج إلى حل ووضوح في الرؤية.
ويمكن التأكيد بأن الأدلة التي طرحها الفلاسفة، من المسلمين ومن غير المسلمين، حول الله، كانت مستمدة من آراء الفلاسفة القدماء، وبالذات من فلاسفة اليونان، لذا يمكن القول بأن الفلاسفة عبّدوا طريقا جديدا/قديما لمعرفة الله. وكانت تلك الأدلة، إمّا تؤكد النّظام، فيقول الفلاسفة بأن النظام يحتاج إلى منظّم، وإمّا تؤكد الإمكان، فيقول الفلاسفة بأن الممكن يحتاج إلى موجب، أو تؤكد الحركة، فيقول الفلاسفة بأن المتحرّك يحتاج إلى محرّك، أو كما جاء في برهان الصدّيقين أن حقيقة الوجود لا يمكن أن تكون غير موجودة.
جميع تلك الأدلة، حسب سروش، هدفت إلى سد النقص الموجود في الإجابة على الأسئلة المطروحة، والتي على إثرها تم التوصل إلى إجابة مركزية وهي بأن “الله هو خالق هذا العالم”. وكانت هذه الطريقة في التدليل تُطرح في ظل وجود معارضين لها، وأبرز ما كان يقوله المعارضون هو أن هذه الطريقة ليست جيدة في موضوع معرفة الله.
يعتقد سروش بأن أدلة الفلاسفة في معرفة الله لم تكن تؤدي إلى اكتشاف ما يسميه بـ”الإله الخارجي”، أي أنها كانت تصنع إلها في “أذهان الناس”. فمن خلال قوة الدليل يتم وضع هذا الإله في الذهن ويتم صنع فكرة الله وإلزام المخاطب على تصديق ذلك. فتأثير الأدلة هو على فكرة “العقل الإلهي”، أي الفكرة التي تتحقّق عند الإنسان عن طريق الاستدلال. وبات كل نوع من أنواع الأدلة، يثبت نوعا معينا من الله. وبتفاوت الأدلة، تفاوتت صور معرفة الله. فالله الذي يتم إثباته عن طريق برهان النظم يختلف عن الله الذي يتم إثباته عن طريق برهان الوجوب.
هذا الاختلاف، حسب سروش، ليس بمعنى المخالف أو الضد وإنما بمعنى التفاوت في النافذة التي من خلالها يتم النظر إلى الله، وهذا التفاوت مرتبط بنوع الأدلة المطروحة في إثبات المدّعى. فالعبارة القائلة بأن الله موجود اعتمدت على نوع “البرهان” الذي تم طرحه لإثبات الوجود، ليس هذا فحسب بل اعتمدت أيضا على “الطريقة” التي تم اختيارها من أجل تأكيد العبارة. والطريقة التي اختارها الفلاسفة استندت إلى العقل واعتمدت عليه.
أما إنسانية الإنسان وملامح السلوك البشري فلم تكن ضمن اهتمامات الفلاسفة، بمعنى أنهم اهتموا بحقائق الوجود، أي أنهم اهتموا بالإنسان من نافذة أنه موجود من الموجودات لا من النافذة الإنسانية، وبالتالي فإن كل موجود هو بحاجة إلى الله. فحاجة الإنسان إلى الله، من وجهة النظر الفلسفية، هي كحاجة قطعة من الصخر إلى الله، وكحاجة البحر إلى الله، وكحاجة الملائكة إلى الله. فجميع تلك الموجودات تحتاج إلى الله في وجودها. ولا فرق أن يكون هذا الموجود الممكن ذي خصال إنسانية أو أن يكون صخرة أو بحرا أو غصن شجرة. أي أن الفلاسفة كانوا يبحثون عن علامة حول الله في الوجود.
معارضو الفلاسفة، وقبل أن ينتقدوا أدلتهم، هاجموا طريقتهم. أي أنهم كانوا يقولون بأن الاعتماد فقط على العقل وعلى السمات المجرّدة للوجود، ليست هي الطريقة المفضلة لمعرفة الله. ومن ثم اختلفت الطريقة التي يختارها ويفضلها العارف أو الصوفي لمعرفة الله وعبادته عن تلك التي يختارها ويفضلها الفيلسوف. فالله الممكن اصطياده عن طريق العقل، يختلف عن الله الممكن اصطياده عن طريق القلب.
إن استناد الفلاسفة إلى العقل لإثبات وجود الله، حسب العرفاء، سيؤدي في يوم من الأيام إلى توصل العقل لدليل ضد هذا الإثبات، أو إلى نفي وجود الله. أي أن سلاح العقل الذي قد يكون اليوم في صالحي قد يقف غدا ضدّي. فالله الذي يحتاج العرفاء إليه لا يهيمن عليه العقل، أو أن الاستناد المطلق إلى العقل، كما يعبّر جلال الدين الرومي (مولانا)، سيخلق تفرعنا عقلانيا في داخل الإنسان.
حسب سروش، والعرفاء، لا يمكن أن نذمّ استخدام العقل في الظروف التي يواجه الإنسان فيها مسائل الحياة ومشاكلها. بينما الظروف التي يمكن ذمّ العقل فيها، فهي تلك التي يعتقد فيها الفلاسفة بأن فك رموز الأمر المقدس لا يتم إلا عن طريق العقل. لذا، يمكن حصر الاختلاف بين الفلسفة والعرفان بشأن مسألة الله في التالي: أن الفيلسوف يبحث عن “الوضوح” وعن كيفية فك العقد ومعالجة الأسرار. بينما العارف يبحث عن “الحيرة”، ويعتقد بأن جوهر المعرفة الإلهية هو السباحة “الحائرة” وسط بحر الأسرار، وأن تلك الأسرار لا يمكن كشفها عن طريق العقل.
(يتبع)