الزيارة تحصل في ظروف المواجهة بين الرياض وإيران.. والقرار العربي بمواجهة «حزب الله»
تغريدات السبهان تؤسس لخارطة طريق: دول الخليج لن تتخلى عن لبنان وعلى حكومته حزم أمرها وحماية البلد من العاصفة الآتية
زيارة البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي المرتقبة إلى المملكة العربية السعودية هي حدث تاريخي بكل المعايير، وهي مؤشر على «السعودية الجديدة»، ولعل الأدق «العودة إلى الإسلام المعتدل» الذي كان يطبع المملكة سابقاً، وفق تعبير ولي العهد السعودي محمد بن سلمان. قد يكون صعباً على كثيرين إدراك التحولات الكبرى التي تشهدها المملكة نظراً إلى عنصر المفاجأة من جهة، والوتيرة المتسارعة في الخطوات من جهة ثانية. فالمملكة تخوض تحديات سياسية واقتصادية وعسكرية وأمنية عدة، لكن الأهم أنها تخوض تحديات اجتماعية وفكرية كبيرة في زمن ينظر فيه الغرب إلى الإسلام على أنه فكر سياسي متطرف يُوسم بالإرهاب، وهي التي تحتل المكانة الأكبر عند المسلمين كونها حاضنة الأماكن المقدسة عندهم، وتقع على عاتقها مسؤولية الأمة الإسلامية.
ثمة هوّة بين الغرب والإسلام تزداد يوماً بعد يوم مع الهجمات الإرهابية التي تتعرّض لها الدول المسماة «صليبية». وثمة صورة نمطية عن المملكة في الفكر والنهج والعقيدة والممارسة. من هنا تأتي أهمية زيارة البطريرك الراعي، أولاً بوصفه أول كاردينال في الكنيسة العالمية، وأحد أكبر أحبارها يزور أرض الحرمين الشريفين، ويلتقي خادمها، في زيارة لها دلالاتها في الشكل والمضمون. الكاردينال بصليبه في أرض الدعوة الإسلامية يجسد مشهداً جديداً في الشكل. والكاردينال بما يمثله موقعه في الفاتيكان وامتداداً إلى العالم المسيحي يرسم مشهداً جديداً في المضمون. هي بداية طريق طويل لكنها ستكون الحدث، عربياً واقليمياً ودولياً، تؤرّخ لتاريخ ومرحلة جديدين تعمل المملكة على تأطيرهما وترسيخهما عبر كسر الحواجز وملاقاة روح الانفتاح والتلاقي والحوار بين الحضارات والأديان.
خطوة ما كانت لتتم لولا سمة العيش المشترك التي يمتاز بها لبنان، ذاك الذي قال عنه البابا يوحنا بولس الثاني «إنه أكثر من بلد، إنه رسالة». وهنا يكمن الشق الثاني من أهمية الزيارة بوصفه بطريركاً لأنطاكيا وسائر المشرق، حيث يُشكّل ذلك تجسيداً لدور الكنيسة المارونية المسيحية في الشرق، وما يمكن أن تلعبه من جسر تواصل بين عالمين وحضارتين، ومن فَهْمٍ لطبيعة تلك المجتمعات والعادات والأعراف.
في رأي متابعين أن هذه الزيارة تتخطى في أبعادها كل ما هو سياسي أو رعوي إلى إعادة الدور المحوري للكنيسة في هذا الشرق وللمسيحيين فيه، وما شكلوه سابقاً ويمكن أن يشكلوه راهناً كعرب وكمشرقيين في العلاقة مع الغرب المتوتر، انطلاقاً مما اختبروه في عيشهم المشترك، ما يضع أمام البطريرك الكاردينال تحدياً جدياً في الآمال المعلقة على الدور الذي يمكن أن تلعبه الكنيسة في إطار فتح الكوّة أمام السلام بين الأديان والحضارات والتقاط الفرصة بتكريس أهمية مسيحيي الشرق وأهليتهم وقدرتهم على لعب هذا الدور.
والزيارة، وفق هؤلاء المتابعين، تدل على التحوّلات الكبرى في المملكة في مسيرة الانفتاح على الذات وعلى الآخرين تعزيزاً لحوار الحضارات والأديان لا تصادمها، والسير قدماً بما تحتاجه تلك المسيرة من خطوات جريئة اجتماعياً في بيئة محافظة في ظل الموجة الدينية العارمة التي جرفت المنطقة والتي ارتفعت وتيرتها بعد «الثورة الإسلامية الإيرانية» ومشروع تصديرها إلى الخارج كمشروع سياسي – ديني.
وعلى الرغم من التأكيد أن لا مرامي سياسية للزيارة، إلا أنها ستلقي بظلالها على الواقع اللبناني العام في ظل المواجهة المفتوحة بين الرياض وطهران وأذرعها العسكرية في المنطقة، وفي مقدمها «حزب الله»، الذي يظهر بشكل جليّ قرار المملكة التصدي لـه بوصفه «ميليشيا إرهابية» تعمل على زعزعة استقرار دول الخليج العربي ولا سيما السعودية. وشكلت «تغريدات» وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج العربي ثامر السبهان إعلاناً لبدء ترجمة القرار بكل متطلباته.
ولعل من الأهمية بمكان التوقف بتمعن عند مقابلة السبهان لمحطة «سكاي نيوز» التي سبقت زيارة رئيس الحكومة سعد الحريري إلى الرياض ولقائه ولي العهد ثم لقائه السبهان مع «سلفي» و«تغريدة» للحريري تشير إلى «اجتماع مطوّل مع معالي الصديق ثامر السبهان»، وتغريدة للأخير تشير بدورها إلى «اجتماع مطوّل ومثمر مع أخي دولة الرئيس سعد الحريري واتفاق على كثير من الأمور التي تهمّ الشعب اللبناني الصالح وبإذن الله القادم أفضل».
ما هو أكيد أن الاجتماع الطويل أو المطول جرى مع السبهان، في تأكيد على أنه الشخص المكلف بالملف اللبناني وتفاصيله. وعليه، فإن تغريدات الرجل التي سبقت والتي ستلي، هي حكماً تغريدات من موقعه الرسمي لا الشخصي. وهذا يجعل ضرورياً رصد ما يقوله الرجل بدقة من أجل فهم أفضل للسياسة السعودية بعيداً عن «الغوغائية» التي يتعاطى بها بعض السياسيين والاعلاميين الذين يذهبون إلى اعتبار أن انتقاد وزير دولة ما لحكومة دولة أخرى هو تدخل في شأن سيادي لهذه الدولة، وكأن السبهان كان يعلق على شأن داخلي لبناني يتناول السياسة الزراعية أو الصحية أو الاجتماعية للحكومة، وليس أنه يدق ناقوس خطر للبنانيين المتعامين حكومة وقيادات وشعباً عن مخاطر ما يقوم به «حزب الله» ضد المملكة بغطاء رسمي.
أهمية مقابلة السبهان أنها سمّت الأشياء بأسمائها. وربما سمعها الحريري ثانية منه: قال «إن ميليشيا «حزب الله» هي المنظومة البكر لإيران، تعلن الحرب على دولنا، تطلق الأسلحة الإيرانية من اليمن على مناطقنا بأيدي عناصرها. تعمل على تجنيد خارجين على القانون من بلادنا وتدربهم في معاقلها داخل الأراضي اللبنانية، وتعمل على إيجاد حواضن إرهابية تنطلق بعمليات ضد دولنا في المنطقة. وهذا عمل يناقض جميع الاتفاقات الدولية. والخطر ليس بالسلاح وحده، بل الخطر الأكبر هو بغزو شبابنا بالمخدرات، وذلك يتم من خلال إنشاء مصانع على الأراضي اللبنانية لانتاج المخدرات وتهريبها إلى مناطقنا».
والقائمة التي يتحدث عنها السبهان طويلة: «هذه الميليشيا تستغل المرافئ اللبنانية وتسيطر سيطرة كاملة على المطار للقيام بما تريده من أعمال غير مشروعة وتهرب عبره إرهابيين. وتريد إيران أن تكرس نموذج «حزب الله» في تلك الدول للسيطرة عليها وإيجاد دول إرهابية متكاملة». وأكثر من ذلك، يكشف أن «إيران تستغل ميليشيا «حزب الله» لتطوير أسلحة ممنوع عليها تطويرها بحسب الاتفاقية النووية في التفاف عليها». كل هذا يطال المملكة ودول الخليج العربي مباشرة. فلعل السؤال المنطقي الذي يجب أن يسأل هنا: هل فعلا يخرق السبهان السيادة اللبنانية حين يتحدث عن صمت الحكومة والشعب اللبناني أو حين يعلن أن بلاده ستتصدى لـ«حزب الله»؟ هل يتدخل في الشؤون اللبنانية حين يعتبر أنه «يجب على اللبنانيين انفسهم ان يعلموا مدى خطورة الوضع الراهن لهذه الميليشيا التي تحتل لبنان والتي سوف تدخله في متاهات مستقبلية كبيرة مع دول اقليمية ودول العالم؟».
هو الواقع المرّ يُعرّيه السبهان بعدما طفح الكيل، وبعدما بات الخطر محدقاً بدولته ودول الخليج وكثير من الدول العربية وحتى دول العالم. ليس في الأمر مبالغة. وإذا كان ثمة من يرى في كلامه تحذيراً، فهو في واقع الأمر توصيف دقيق إنما من باب الحرص لا التهديد، ذلك أن المملكة تدرك أن العاصفة آتية لا محالة، وأن على لبنان أن يسابق العاصفة لدرئها وحماية نفسه من الغرق. وهي في هذا السياق تمد يدها إلى الدولة اللبنانية إن أرادت، وإلى الحكومة إن حزمت أمرها، وليست في وارد التخلي عنها، لا بل بدا واضحاً أنه رسم «خارطة طريق» تقوم على عدم تخلي الدول العربية والخليجية بالأخص عن لبنان وعدم السماح بإبعاده عن محيطه العربي، ولكن في المقابل «يجب أن يكون هناك تحرّك من الحكومة اللبنانية والشعب اللبناني حتى نستطيع أن نعمل جميعاً لإنقاذ المجتمع اللبناني المحبّ للحياة مما تفعله تلك الميليشيا».
«خارطة الطريق» تبدأ أولاً بأن يقوم لبنان الرسمي بمؤسساته قاطبة بلعب دوره وتحمل مسؤولياته كي لا يتحول إلى دولة فاشلة ومارقة. وبداية ذلك تكون في رسم خط فاصل بين لبنان الدولة و«حزب الله» الميليشيا التي تعمل على زعزعة استقرار دول أخرى!
هذا كلام سمعه الحريري كرئيس حكومة مسؤول عن الحفاظ على الدولة اللبنانية وعلاقتها مع محيطها العربي ومع العالم، ومسؤول عن تنفيذ القرارات الدولية.
الحديث لم يتعلق بالتسوية السياسية والبقاء فيها أو الخروج منها. المهم هي النتيجة والتي على أساسها إما ينجو لبنان أو يغرق!