لا أحد، من المعلّقين على الشأن العام، يرجو أن يكون مُخطئاً. ومن النادر أن يعترف أحد بأثر رجعي. ومع ذلك، أرجو أن أكون مخطئاً في القول إن تفجير داعش الانتحاري الأوّل في غزة لن يكون الأخير. ولنفكّر، بداية، في أساطير بددها التفجير: أن لا وجود لداعش في غزة (وفلسطين)، وأن وصول “الإسلاميين المعتدلين” إلى السلطة في مكان ما يضمن احتواء “المتطرفين”. وبعد الكلام، قليلاً، عن هذه وتلك، نختم بالفنتازيا.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بالأسطورة الأولى، وحتى على المستوى النظري يستحيل أن يكون الوباء الداعشي (المقصود، هنا، حالة ثقافية عامة، وتجليات تنظيمية، بصرف النظر عن تسمياتها) قد تمكّن من أجساد دول ومجتمعات في الشرق والغرب وحادَ عن فلسطين وأهلها. وبالنسبة للمولعين بالتحليل السوسيولوجي للوباء الداعشي توجد في غزة، على نحو خاص، وفي فلسطين عموماً، كل التوابل المطلوبة في الطبخة الداعشية. ولست، هنا، بصدد رصد الشواهد، وهي كثيرة.
المهم، رفض، قبل أيام، طلاّبٌ في جامعة فلسطينية، الوقوف احتراماً للنشيد الوطني، وبهذا كانوا أوفياء لسيّد قطب صاحب عبارة “الوطن وثن والعَلم صنم”. هم، طبعاً، يَدرسونه، ويُدرّسونه في حلقاتهم التربوية والتنظيمية. العبارة موسيقية، تماماً، ولكن فيها من البارود ما يكفي لزعزعة أوطان، وتدمير بلدان. عمرها من عمر الصراع بين عبد الناصر والإخوان المسلمين على معنى ومبنى الهوية المصرية الحديثة. وهي، أولاً وأخيراً، معادية للوطن والوطنية.
والأهم من الأوّل والأخير، أن العداء للوطن والوطنية وُلد مع الحرب الباردة، وكان سلاحاً في ترسانتها الأيديولوجية لمقاومة وإجهاض الحركات الاستقلالية في العالم العربي. (بين كل “مؤلفات” ابن باز، الموضوع الدنيوي والسياسي الوحيد هو ذمّ القومية العربية).
ولا فائدة، في الواقع، من تذكير هؤلاء بأشياء كهذه عن جينالوجيا وأيديولوجيا توثين الوطن، وتصنيم العَلم. فما يحدث الآن، وهنا، في فلسطين والعالم العربي، لا يتجلى كصراع يُخاض، في جانب منه، على مستوى العقل والمنطق، بقدر ما يتجلى كعملية انهيار وتحلل طويلة الأمد لن يوقفها أحد حتى تبلغ مداها. “لا أحد يولد إلا من رماده”، كما كتب أدونيس. لذا، يكفي القول إن في حادثة كهذه، على الأقل، ما يستدعي إعادة النظر في مناهج وسياسة التعليم في بلادنا. لعل وعسى.
ولنصل، الآن، إلى أسطورة أن وصول “الإسلاميين” المعتدلين إلى السلطة، في مكان ما، يضمن احتواء “المتطرفين”. ولنحاول صياغة الموضوع بطريقة مغايرة: أليست حماس الإخوانية، وهي الحاكم الفعلي لغزة، “إسلامية” بالحد الكافي، ولماذا، إذاً، يخرج منها وعليها أشخاص بدعوى أنهم أكثر “إسلامية” منها؟ وهل ثمة إمكانية، فعلاً، لوقف عملية التشظي السياسي والأيديولوجي في صفوف “الإسلاميين”، وهل ثمة نهاية محتملة لصيرورة “التطرّف”؟
الجواب: الاعتدال والتطرّف مجرد حيل بلاغية. كانت الماركسية أيديولوجية سائدة ومشتركة بين الاتحاد السوفياتي والصين، ولم تكن شرطاً كافياً لتحقيق الانسجام، أو حتى تفادي العداء الصريح. وكانت أيديولوجيا البعث قاسماً مشتركاً في سورية والعراق، ولم تكن شرطاً كافياً لتحقيق الانسجام، أو حتى تفادي العداء الصريح.
وفي موسكو، كما في بكين، وفي دمشق، كما في بغداد، كان أشخاص يسكبون حبرَهم، ويكسبون لقمة عيشهم من اتهام الآخرين بالتحريف والانحراف النظري والعقائدي. وقد ظهرت من وقت إلى آخر نتوءات ودرنات أيديولوجية وسياسية من نوع الخمير الحمر، في كمبوديا، مثلاً، للتدليل على حقيقة أنها تشرب أكثر من غيرها من النبع الصافي للنظرية.
الغرض من المقارنة أن الإسلاموية كأيديولوجيا لا تختلف في الحقل، والممارسة السياسية، عن غيرها من الحركات والجماعات الأيدولوجية المُعلمنة. وبهذا المعنى، لا قيمة للاعتدال أو التطرف، فكلاهما مجرّد واجهة خارجية، فرضتها خصوصيات محلية، وإكراهات خارجية، وقد يتبادل الطرفان الأدوار، ليصبح “المتطرف” معتدلاً، و”المعتدل” متطرفاً، ويمكنهما في الحالتين العثور على مبررات “نظرية” صافية. وبهذا المعنى، فإن “المعتدلين” و”المتطرفين” الإسلاميين، كما الخمير الحمر، والحزب الشيوعي الفيتنامي، يشربان من النبع النظري نفسه، ولكن بتأويلات فرضتها إكراهات وخصوصيات داخلية وخارجية مختلفة.
بيد أن هذه الأشياء كلها ينبغي ألا تحجب الكثير من أوجه الاختلاف. فالماركسية، ابنة عصر الأنوار، وعلى الرغم من نتوءات، ودرنات، أيديولوجية، لم تناصب الوطن والوطنية العداء، وبالتالي لم تكن معادية لفكرة للثقافة. حتى ثورة ماو الثقافية، وحرب البلاشفة على الكنيسة الروسية (وكلاهما ألحق ضرراً بالغاً بتراث وثقافة البلدين) لم تصدرا عن جنوحٍ لتدمير الثقافة بل عن محاولة جانحة لإصلاحها. أما عداء الإسلاموية، ابنة الزواج الوهابي ـ الإخواني، في زمن الحرب الباردة، للوطن والوطنية، وبالتالي الثقافة، فمطلق. وإذا كان في هذا ما يفسّر عدم احترام العَلم من جانب “معتدلين”، فإن فيه ما يفسّر، أيضاً، كيف يمكن أن يخرج منهم وعليهم “متطرفون”.
أخيراً، يجلس شخصٌ في غزة، الآن، ويفكر: هو جندي من جنود الخلافة، بايعَ البغدادي، وهو شرعي، أيضاً، يجيد صياغة الفتوى والبيانات، وكم سيبدو مُدهشاً في شريط الفيديو، الذي ستحضر “الجزيرة” لتصويره، أو تحصل عليه بطريقة “غامضة”، أو “تساعدهم” في التصوير والإخراج، ورفعه على الإنترنت، يوم إقامة الحد على المرتدين (يعرفهم واحداً واحداً، وبعضهم من حماس) في ساحة الجندي المجهول. هناك، أيضاً، سيُقام سوق السبايا (يفكر في جارته الآن)، سيهدم “المجلس التشريعي”، و”مركز رشاد الشوّا”، وأحد كازينوهات البحر (هو يعرفه الآن) سيصبح مركزاً للحسبة، وتحصيل الجزية (يفكر في جاره الآن). لن تخرج امرأة في غزة حاسرة الرأس بعد اليوم، ولن تبقى مدرسة واحدة للبنات، (يقول في نفسه ولها) يا إلهي، لكم يبدو المشهد “رائعاً” الآن.
فنتازيا مريضة ومُخيفة. من زرع حصد.
khaderhas1@hotmail.com