كيف لي أن أحيي وأكرّم ذكرى صديق أمضى عقودا من حياته بمواجهة شبه دائمة مع المرض الفتّاك والموت دون أن يتخلّى يوما عن ابتسامته الناعمة ونظرته المتلألئة بالذكاء الخارق وفائض من الإنسانية كما وظلّ دائما يداعبك بروح النكتة وحبّه للحياة.
كيف لي أن أتكلّم عن شجاعة هذا العملاق الجبّار الذي كان يتحدّى ساخرا المرض المحدق به ويهزأ منه قائلا: “لن أدعك تنتصر عليّ”. ولكن كل شيء له نهاية في هذا العالم. فهذه الأرزة من أرز لبنان خسرت معركتها الأخيرة واستسلمت للعدو الوحيد الذي لا يستطيع أن يصرعه إلاّ الله: الموت. لقد غادرنا سمير فرنجيّة إلى الحياة الآخرة.
كان مناضلا شجاعا تشعّ منه نار من إيمانه بالقيم اليساريّة التي التصقت به وواكبته منذ شبابه فجعلت منه مثقفا من أرفع المستويات، حكيما بين أكبر الحكماء، مرجعا للثقافة السياسية وصوتا حرّا جهورا مشرّفا لوطنه لبنان، محترما من قبل الرأي العام والنخب المثقّفة في وطنه كما في العالم العربي والمجتمع الدولي.
لم يكن أحد يأخذ أيّ مبادرة في الحياة العامة دون أن يتسأل: “ما هو رأي سمير بيك يا ترى؟ كيف لنا أن نقنع سمير بيك؟ أي مركز علينا أن نحفظ لسمير بيك ضمن مبادرتنا؟”. لقد نجح سمير فرنجيّة في إنجاز المستحيل, أي أن يتوافق الجميع من أصدقاء وخصوم للاعتراف أنّ شخصيّته الاستثنائية لم تتزعزع يوما عن قناعاتها وخاصة عن وفائها لقضية الشعب الفلسطيني ضدّ الصهيونيّة وعن دعمها الدائم لجميع الشعوب العربيّة المقموعة من قبل أنظمة مجرمة على مثال النظام السوري. وستحفظ له الأجيال القادمة جزيل احترامها لنضاله الدؤوب من أجل السلام ونبذ العنف والعيش سويّا.
كل رجل حرّ يشعر بالامتنان تجاه سمير فرنجية الذي أتقن فنّ صياغة الفكر السياسي من أجل البحث عن الخير المشترك ونشر ثقافة كرامة الفرد البشري وحقوق الإنسان, والذي بذل كل جهده من أجل لبنان وسيادته ورسالته الفريدة كواحة للعيش معا في وطن يحكمه دستور مميّز وفريد من نوعه في العالم إذ أنه يعلن بكل وضوح: “لا شرعية لأي سلطة تتناقض ميثاق العيش المشترك”. لذلك وحتى آخر نمط من حياته كان هاجسه الوحيد: ميثاقيّة العيش سويا في لبنان, سلام لبنان، قدسيّة نصوصه الدستوريّة.
كان الصديق سمير روح وضمير حركة الاستقلال اللبناني الثاني لسنة 2005 وما عرف يومها بخطّ 14 آذار. ولكن وبالرغم من التزامه الكامل والشفاف لمبادئ وروح 14 آذار لم يدخل يوما بزواريب الصفقات والتسويات السياسية الضيّقة, محافظا بذلك على عدم اهتمامه بمصلحته الشخصيّة وعلى كرامة قناعته بالمبادئ الأساسيّة التي بشّر بها وكتب الكثير عنها والتي وحدها تفسّر موقفه المعادي للمحور الإيراني-السوري الذي كان يعتبره مناقضا لميثاقية العيش سويا في لبنان الاعتدال والسلام.
سمير فرنجيّة او “البيك الأحمر” … هكذا لقّبوا هذا المناضل اليساري وريث تقليد إقطاعي من أكبر عائلات بلدة “زغرتا” المشهورة ببيوتها السياسيّة وتقاليدها العشائريّة. وسيحفظ له التاريخ كيف خرج عن تقليد الزعامات الإقطاعيّة وانصهر في نضال الحركات اليساريّة ممّا لم يكن يعتبر خيارا طبيعيا في أوساط اليمين المسيحي وخاصة أيام الحرب الأهليّة اللبنانيّة. وبالرغم من ذلك الخيار الصعب فقد لعب دورا مهما في كل المجامع الكنسيّة التي التأمت من أجل لبنان منذ تسعينات القرن العشرين.
ما هو يا ترى سرّ شخصيّة سمير فرنجيّة الذي بإمكانه أن يفسّر انتمائه والتزامه الفكري والسياسي؟
قبل بضعة أسابيع من وفاته التقيت بالصديق سمير في منزله. وكانت الشمس قد قاربت أن تغيب في سماء بيروت في هذا اليوم الممطر. تكلّمنا كثيرا عن التدنّي المذهل للخطاب السياسي الحالي ونبرته الغريبة حيث البذاءة لم تعد تستحي بكشف وجهها الشنيع والفائح بجميع أنواع الروائح النتنة.
قلت له متسائلا: “لم أكن يوما في شبابي ناشطا يساريّا. ولكن عندما أشاهد على التلفاز صورا قديمة من زعماء مثل فيديل كاسترو وهو شي مينه وسلفاتور ألليندي لا يسعني إلاّ أن أقول لنفسي بدهشة كم كانت هذه الوجوه من الماضي وبالرغم من قساوتها وعنف ثوراتها تعكس شيئا من الإنسانيّة على عكس زعماء وسياسيي اليوم”.
سكت البيك الأحمر ونظر إليّ مبتسما ولما خرج من صمته قال لي بهدوء: “أوجههم كانت تعكس شيئا من نور قيم الإنجيل التي علّم بها السيد المسيح”.
سمير المثقّف العملاق … سمير البيك الأحمر … سمير بطل السلام والاعتدال والعيش سويا … سمير فرنجيّة الزغرتاوي الذي كان كل وفاء لوطنه لبنان فتح لي فجأة بقوله هذا سره الخفي المتأثر بأقوال يسوع الناصري: “طوبى للفقراء … طوبى للحزانى … طوبى للمتعطّشين إلى البرّ … طوبى لصانعي السلام”.
وهذا ما كلن يلخّصه دائما بقوله الشهير: “يا أيّها المعتدلون في العالم اتحدوا من أجل السلام”.