الانتقال من الإدارة إلى الحسم
على مدار خمسة عقود، خضعت الجغرافيا الممتدة من حزام الساحل الأفريقي وصولاً إلى تخوم الشرق الأوسط لما يمكن تسميته “السيولة الأمنية المُوجهة”. إلا أن التحولات الراهنة تشير إلى قرار دولي استراتيجي بالانتقال من “مواجهة الإرهاب” كفعل ورد فعل، إلى “استراتيجية القفل الفولاذي” (The Steel Lock Strategy). وهي هندسة أمنية وجيوسياسية شاملة تهدف إلى إغلاق القوس الجغرافي الممتد من نيجيريا إلى اليمن، مروراً بليبيا والسودان، وتحويله من مساحة للمناورة الأيديولوجية إلى منطقة نفوذ محكمة الإغلاق.
أولاً: سيكولوجية “التوريط”.. السلطة كأداة للتعرية العقائدية
إن الفهم العميق لهذه اللحظة يتطلب العودة إلى ما بعد عام 2011، حيث تم تبني “منهج التوريط المبرمج” (Strategic Entrapment). لقد سُمح لتيارات الإسلام السياسي بالصعود إلى سدة الحكم والسيطرة على الثروات في بيئات معقدة وهشة، ولم يكن ذلك اعترافاً بشرعيتها بقدر ما كان استدراجاً لها إلى “مسلخ الواقعية السياسية”.
من خلال هذا التوريط، تم تحقيق هدفين مزدوجين:
• الانكشاف البنيوي: تحويل التنظيمات من كيانات سرية أسطورية إلى أجهزة حكم غارقة في تفاصيل الفساد الإداري والعجز التنموي، مما أدى إلى تآكل “المقدس الأيديولوجي” أمام الجماهير.
• الانكشاف الأمني: رصد الشبكات المالية، البشرية، واللوجستية لهذه التيارات تحت ضوء مؤسسات الدولة، مما جعل عملية تفكيكها لاحقاً مسألة إجرائية وليست استخباراتية صعبة. واليوم، يجد “الإسلام المتطرف” نفسه ضحية لهذه الهندسة، حيث بدأت مرحلة “المطاردة والإمحاء” بعد أن أدت مرحلة “التوريط” غرضها.
ثانياً: ميكانيكا “القفل الفولاذي”.. السيطرة على الفراغ
تعتمد استراتيجية القفل الفولاذي على فلسفة “الإغلاق المحكم” تحت غطاء FlintLock، وهي تتجاوز الفعل العسكري لتشمل ثلاثة أبعاد بنيوية:
الإغلاق الجغرافي: تحويل الصحراء الكبرى ومنطقة الساحل إلى سياج أمني يمنع تدفق المقاتلين والسلاح، مع عزل بؤر التوتر في ليبيا والسودان واليمن عن بعضها البعض لضمان عدم نشوء “خلافة مكانية” عابرة للحدود.
الإغلاق المعلوماتي: ربط الأجهزة الأمنية المحلية بمنظومات رقابة دولية فائقة الدقة، مما يجعل التنفس الأيديولوجي في هذه المناطق خاضعاً لـ “فلترة” تكنولوجية تمنع التحشيد والتمويل.
الإغلاق السياسي: الضغط على المراكز التي كانت تمثل “رئة سياسية” (مثل إسطنبول) لتغيير قواعد اللعبة، مما أدى إلى محاصرة الخطاب الراديكالي وتجريده من منصاته الإعلامية والدبلوماسية.
ثالثاً: قوس التفكيك.. من نيجيريا إلى اليمن
يتجلى تطبيق “القفل الفولاذي” في توزيع أدوار القوة عبر خرائط السيطرة السابقة:
• في الساحل ونيجيريا: يتم تجفيف منابع “بوكو حرام” وأخواتها عبر تحالفات أمنية لا تكتفي بالقتال، بل تسيطر على الموارد الاقتصادية لضمان عدم تمويل التطرف.
• في ليبيا والسودان: يجري العمل على تفكيك “الدولة الموازية” التي بناها الإسلاميون لعقود، وإعادة صياغة مؤسسات الجيش والأمن وفق عقيدة ترفض التسييس الديني.
• في اليمن: يتم وضع التطرف المسلح في “زجاجة محكمة”، حيث يُسمح له بالبقاء كظاهرة محلية مستنزفة بشرط عدم تهديد الممرات المائية (باب المندب) أو أمن الطاقة العالمي.
رابعاً: الاستشراف الاستراتيجي.. سيناريوهات “القفل” ومصفوفة المخاطر
إن نجاح أو فشل هذه الاستراتيجية الجريئة يضعنا أمام ثلاث مسارات مستقبلية:
سيناريو “الاستقرار الحديدي” (النجاح الكلي)
يتحقق هذا المسار عندما ينجح “القفل الفولاذي” في تحويل المنطقة إلى منطقة نفوذ مستقرة أمنياً، حيث تتلاشى التيارات الراديكالية وتتحول إلى مجرد “ذاكرة تاريخية”. هنا، تسيطر القوى الدولية على الثروات والممرات، وتدخل المنطقة في عصر “الهدوء القسري” المعتمد على التكنولوجيا والقبضة الأمنية المركزية.
سيناريو “التكسير التعددي” (المنافسة الدولية)
أن تصطدم الاستراتيجية الأمريكية بطموحات قوى دولية أخرى (روسيا والصين). في هذا المسار، قد تقوم هذه القوى بـ “برد” زوايا القفل الفولاذي عبر دعم أطراف محلية أو غض الطرف عن جيوب راديكالية لاستخدامها كأوراق ضغط ضد النفوذ الغربي، مما يبقي “ثقوباً” في القفل تسمح للتطرف بالبقاء تحت الطلب.
سيناريو “انفجار الجيل” (الفشل الهيكلي)
وهو الخطر الأكبر؛ حيث يؤدي التركيز على “الإمحاء والمطاردة” الأمنية دون تقديم “بدائل تنموية” إلى خلق حالة من الاحتقان الاجتماعي الهائل. هنا، قد ينكسر “القفل الفولاذي” من الداخل، ليس بفعل تنظيمات قديمة، بل بفعل “انفجارات عشوائية” تقودها أجيال جديدة لا تؤمن بأي هيكل تنظيمي، مما يؤدي إلى فوضى لا يمكن التنبؤ بها.
ما بعد الفولاذ
إن استراتيجية “القفل الفولاذي” هي إعلان عن نهاية حقبة “السيولة” وبداية مرحلة “الحسم الجيوسياسي”. إن العالم لم يعد يحتمل وجود مناطق خارج السيطرة في قلب طرق التجارة والطاقة. ولكن، يبقى الدرس التاريخي الأهم: أن الفولاذ قد يغلق الأبواب بإحكام، ولكنه لا يغير القلوب والعقول؛ فإذا لم يُملأ الفراغ الذي خلفه تفكيك “الإسلام السياسي” بمشروعات وطنية مدنية حقيقية، فإن هذا القفل سيبقى عرضة للصدأ أو الانكسار أمام أمواج التحولات السوسيولوجية العميقة.
