الانزلاق من الطموح إلى الضرورة
تشهد السياسة الخارجية لتركيا، تحت قيادة الرئيس رجب أردوغان، تحولاً جذرياً يشي بانتهاء مرحلة “الطموح الإمبراطوري” وبدء عصر “الضرورةالاقتصادية“. إن القرار الرئاسي الأخير بتجميد أصول كيانات إيرانيةمرتبطة بالبرنامج النووي، بما في ذلك المنظمة النووية وبنوك إيرانية، لايمثل مجرد إجراء تقني للامتثال للعقوبات الدولية؛ بل هو نقطة انعطافاستراتيجية تبرهن على أن بوصلة أنقرة تتجه غرباً تحت الضغط، وأن ثمنالبقاء الداخلي يقتضي التضحية بأوراق إقليمية ثمينة، وحتى بالحلفاءالسابقين.
ثمن البقاء: لعبة التنازلات الكبرى
تتجمع على تركيا حالياً ضغوط غير مسبوقة تجعل موقفها الاقتصاديوالسياسي هشاً. الدافع الرئيسي لهذا التحول هو الورطة الاقتصادية، حيث تجاوزت الديون التركية الخارجية نصف تريليون دولار، وهو رقم يهددالاستقرار الكلي للبلاد. في ظل هذا الوضع، يصبح كسب الرضا الغربي، وتحديداً الأمريكي، ضرورة قصوى لفتح شريان التمويل الأجنبي، وتخفيفالضغط على الليرة، وتهدئة الأسواق.
يأتي هنا دور الورقة الإيرانية. فتجميد الأصول هو خطوة منسقة معالعقوبات الأمريكية والأممية، ويمثل إشارة واضحة لواشنطن بأن أنقرة مستعدة للتخلي عن مساحات تعاون سابقة كانت تستغلها للتحايل على العقوبات أو للحصول على ميزات إقليمية. هذا القرار يتزامن مع:
• المطالب الأمريكية بقطع شراء النفط الروسي، ما يزيد الضغط على إمدادات الطاقة التركية ويضعها بين مطرقة روسيا وسندان أمريكا.
• تصاعد أزمة شرق المتوسط حول تقاسم الموارد والمياه الإقليمية، ما يتطلب دعماً دولياً لا يمكن تحصيله إلا عبر التوافق مع العواصم الغربية.
لقد وضع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أردوغان في موقف حرج علناً، متهماً إياه بـ “محترف تزوير انتخابي” وفاضحاً لدوره في الملف السوري. هذه الإهانة السياسية أمام الإعلام العالمي ليست سوى خلفية تُظهر حجم الضغط الخارجي الذي يواجهه أردوغان، والذي يضطره إلى التخلي عن طموحاته لصالح تكتيك البقاء.
تحدي شرق المتوسط: الرفض المصري اليوناني ومناورة التنقيب
في خضم هذا التوتر، يظل شرق المتوسط نقطة الاشتعال الأكثر حساسية. فالاتفاقيات البحرية الأخيرة بين تركيا وبعض السلطات في ليبيا (مثل مذكرة التفاهم في 2019 ومذكرة التعاون الخاصة بالنفط والغاز في2022 و 2025) حول ترسيم الحدود البحرية والتنقيب، قوبلت برفض قاطع وتصعيد عملي من مصر واليونان.
• الموقف المصري: أعلنت القاهرة رسمياً رفضها القاطع للاتفاقيات التركية–الليبية، وقدمت مذكرة رسمية للأمم المتحدة تؤكد أن هذه الاتفاقياتباطلة ولاغية كونها تنتهك سيادتها وحقوقها في المنطقة الاقتصاديةالخالصة (EEZ). وتحديداً، اعتبرت مصر أن المنطقة التي شملتها مذكرةالتعاون الأخيرة (Area 4) تتداخل بالكامل مع حدودها البحرية الغربية، التي رسمتها بموجب المرسوم الرئاسي رقم 595 لسنة 2022.
• الرد العملي المصري: لم يقتصر الرد المصري على الجانب الدبلوماسي، بل نفذت مصر مسوحات زلزالية عملية في المنطقة المتنازع عليها، بالتوازي مع ترسيم حدودها البحرية مع ليبيا بشكل أحادي (بموجب مرسوم2022 )، بهدف ترسيخ حقوقها وإبطال أي تحركات تركية–ليبية على الأرض.
• الموقف اليوناني: تتفق أثينا مع القاهرة في الرفض القانوني والجيوسياسي للاتفاقية، معتبرة أنها تتجاهل وجود الجزر اليونانية (مثل كريت ورودس) وتتعدى على حقوقها الاقتصادية، وتعتبرها “غير قانونية وغير مقبولة“. وقد عززت اليونان موقفها بالتوصل إلى اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع مصر في عام 2020، والتي تشكل رداً مضاداً ومباشراً للاتفاق التركي–الليبي.
هذا التصعيد يضع تركيا أمام تحدٍ مزدوج: ضغط غربي لإنقاذ الاقتصاد، وتصعيد إقليمي يتطلب منها التراجع عن مكاسبها في المتوسط لتجنب صدام مباشر مع تحالف مصري–يوناني مدعوم أوروبياً.
السقوط المدوي أم البقاء بتكلفة باهظة؟
تركيا تقف اليوم عند مفترق طرق حاسم. إما أن تنجح رقصة التوازن الأخيرة، وتستبدل سياستها الإقليمية الصدامية بتحالف براغماتي مع الغرب، وتبدأ فعلاً في إنقاذ اقتصادها. وإما أن يكون هذا التنازل مجردحلقة في سلسلة من الإذعان لا تفتح شريان التمويل الكافي، وتؤدي إلى السقوط المدوي الاقتصادي والسياسي.
تثبت هذه المرحلة أن المصالح الاقتصادية هي القوة الدافعة العليا في السياسة العالمية الحديثة، وأن أي طموح إقليمي، مهما كان حجمه، ينهار أمام ضغط ديون تفوق نصف تريليون دولار. إنها ليست نهاية سياسة أردوغان، بل نهاية مرحلتها الأكثر جرأة، وولادة مرحلة جديدة عنوانها: البقاء أولاً، مهما كان الثمن الإقليمي.
بعد “فيتو” مصري.. الحدود البحرية تزعزع العلاقات بين القاهرة وأنقرة
