سوق الكاش المخالف في لبنان ينتقل إلى مكاتب كتاب العدل. والسؤال المطروح اليوم: هل تحولت منطقة فقرا – كفرذبيان العقارية إلى إحدى عواصم تبييض الأموال في لبنان؟
هذا السؤال يفرض نفسه في ضوء متابعة حثيثة لحركة الأموال وشراء العقارات في المنطقة التي توسعت إلى حد غير طبيعي ويتجاوز الحاجات اللبنانية المعتادة. المعطيات الأولية تشير إلى وجود أسماء متورطة في لعبة تبييض الأموال عبر القطاع العقاري في فقرا كفرذبيان ومشاريع الإنشاءات، من بينها صاحب مؤسسة مجوهرات كبيرة بشراكة غير معلنة مع محيط رئيس مجلس النواب نبيه بري، وآخر مقرب من النائب جبران باسيل، وثالث يعمل في مصرف لبنان، إلى جانب آخرين.
خطورة هذا الملف تتجلى على صعيدين:
الصعيد الأول قانوني ومالي، إذ تحصل مخالفات كبيرة من خلال عمليات الشراء وإبرام عقود البيع نقداً حصراً، إضافة إلى إتمام العقود عبر كتاب العدل الذين تحولوا عملياً إلى بدائل مصرفية غير معلنة وغير نظامية ومخالفة لمهامهم. مبالغ ضخمة يجري تداولها نقداً ومن دون أي رقابة على مصدر الأموال، بعضها يصل إلى عشرة ملايين دولار يتم تبادلها بالحقائب عند كتاب العدل لإتمام المعاملات. هذه العمليات، بحسب القانون، يجب أن تخضع لرقابة مصرف لبنان وأحكام القوانين المرعية، إلا أن الواقع مختلف. عدد من العقود يجري لصالح عملاء مشبوهين مدرجين على لوائح العقوبات الدولية (OFAC)، ما يشكّل خطراً مزدوجاً قانونياً وأمنياً.
الصعيد الثاني أمني، إذ إن نسبة كبيرة من هذه المعاملات تصب في مسار تمويل غير مرئي لحزب الله، ما يجعل المتورطين فيها عرضة لملاحقات لا تقتصر على القانون الداخلي بل تمتد إلى الاستهداف الشخصي من قبل إسرائيل أو غيرها في حال نشوب حرب أو تصعيد مالي ضد مصادر تمويل الحزب عبر أطراف ثالثة. والسؤال المطروح أمام بلدية كفرذبيان، رغم أن رئيسها الجديد معروف بشفافيته، هو: هل يجري التحقق من خلفية الجهات التي تتهافت على شراء العقارات في فقرا؟ فجزء من هؤلاء مخالف للقانون وقد يلاحق محلياً أو دولياً، وجزء آخر معرض للاستهداف الأمني ما يعرض المنطقة ككل لمخاطر.
من هنا، لا بد من التذكير أن مطاردة مالية حزب الله تشكل سياسة ثابتة لعدد كبير من الدول الأجنبية والعربية، نظراً لتصنيفه تنظيماً إرهابياً. وبالتالي فإن الأخطار لا تصيب الحزب وحده، بل تمتد إلى المتعاملين معه والواجهات التي تغطيه.
في هذا السياق، تبرز مسؤولية كتاب العدل والمحامين في لبنان. القانون 44/2015 المتعلق بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب يلزمهم بالتبليغ عن أي عمليات مشبوهة أو أموال مجهولة المصدر. كتاب العدل ليسوا مجرد موثقين للعقود، بل عليهم واجب التحقق من هوية الأطراف المتعاقدة، التدقيق في مصدر الأموال، رفع تقارير إلى هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان عند الشبهة، ورفض إتمام العقود المخالفة. المحامون أيضاً، عند إعداد العقود أو تمثيل العملاء، ملزمون برصد العمليات التي تنطوي على مخاطر تبييض أموال أو تمويل إرهاب أو تهرب ضريبي.
لكن الواقع العملي يشير إلى ثغرات عميقة. أولاً، لا يوجد ربط رقمي مباشر بين مكاتب كتاب العدل ووزارة المالية أو هيئة التحقيق الخاصة، ما يسمح بتمرير عقود بيع بملايين الدولارات دون تسجيل فوري. ثانياً، التعامل النقدي ما زال سائداً، في حين أن المبدأ يجب أن يكون إلزام الدفع والتحويل عبر المصارف. ثالثاً، الرقابة الميدانية من وزارة العدل على أعمال كتاب العدل شبه غائبة، ما يحوّل بعض المكاتب إلى “مصارف ظل”.
الحل يكمن في إصلاحات أساسية: إلزام الدفع عبر النظام المصرفي لأي عقد يفوق عشرة آلاف دولار، إنشاء منصة إلكترونية تربط فورياً جميع مكاتب كتاب العدل بوزارة المالية وهيئة التحقيق الخاصة، تدريب كتاب العدل والمحامين على آليات كشف العمليات المشبوهة، واعتماد إجراءات تأديبية وجزائية بحق كل من يتخلف عن واجب الإبلاغ.
إن مكاتب كتاب العدل في لبنان لم تعد مجرد مؤسسات لتوثيق العقود، بل باتت واجهات محتملة لتبييض أموال الإرهاب والمخدرات والتهريب والتهرب الضريبي. وترك الوضع على حاله، من دون رقابة جدية من وزارة العدل، يعرض لبنان لمخاطر قانونية وأمنية متزايدة. المطلوب اليوم ليس التصريحات العمومية، بل تحقيقات جدية وإصلاح رقابي وتشريعي يربط عمل كتاب العدل والمحامين بالمنظومة المالية الرسمية منعاً لتحويلهم إلى مصرفيين جدد من خارج القانون.
*****
في فرنسا يخضع نشاط الكتّاب العدل (notaires) في موضوع مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب إلى المنظومة القانونية التالية:
الإطار القانوني العام
قانون النقد والمال الفرنسي (Code monétaire et financier): هو المرجع الأساسي، ويُلزم الكتّاب العدل بالتقيّد بأحكام مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب (AML/CFT).
* هذا القانون نُقِّح ليتماشى مع توجيهات الاتحاد الأوروبي المتعاقبة (التوجيه الرابع 2015/849، والتوجيه الخامس 2018/843).
الالتزامات المفروضة على الكتاب العدل
1. واجب العناية الواجبة بالعميل (KYC – Know Your Customer):
على الكاتب العدل التحقق من هوية الأطراف المتعاقدة، مصدر الأموال، والغرض من العملية العقارية أو المالية.
2. الإخطار بالاشتباه (Déclaration de soupçon):
إذا لاحظ الكاتب العدل أن هناك عملية مشبوهة قد تنطوي على غسل أموال أو تمويل إرهاب، يجب عليه رفع تقرير إلى هيئة الاستخبارات المالية الفرنسية
TRACFIN (Traitement du renseignement et action contre les circuits financiers clandestins).
3. الالتزام بعدم الإخبار (Obligation de non-divulgation):
يُمنع الكاتب العدل من إعلام العميل بأنه قدّم تقريراً مشبوهاً إلى TRACFIN.
4. المراقبة الداخلية والتدريب:
يجب على مكاتب الكتّاب العدل وضع آليات مراقبة داخلية، تعيين مسؤول امتثال، وتدريب العاملين على كشف المؤشرات المرتبطة بغسل الأموال.
المرجع المهني
* المجلس الأعلى للكتّاب العدل (Conseil Supérieur du Notariat – CSN) يضع إرشادات تفصيلية، ويوفر دعماً مهنياً في ما يتعلق بتطبيق هذه القواعد.
بكلمة، القانون المطبق هو قانون النقد والمال الفرنسي، المكمّل بالنصوص التنظيمية والتوجيهات الأوروبية، مع إلزامية التصريح إلى TRACFIN عند وجود أي شبهة تبييض أموال في عمل الكاتب العدل، خصوصاً في العمليات العقارية والمالية.
