من الصعب توقع لحظة استثنائية في هذه القمة وبلورة رؤية حد أدنى لمعالجة أو متابعة الأزمات المهددة للدول الوطنية ووقف نزيف الفوضى التدميرية في لعبة الأمم الإقليمية.
تنعقد القمة العربية (الدورة الثامنة والعشرون) في 29 مارس على شاطئ البحر الميت قبالة القدس الشريف وسائر فلسطين. يضفي هذا الاختيار الموفق للمكان من قبل المملكة الهاشمية المزيد من الرمزية لأعلى هيئة في العمل العربي المشترك أطلقها جمال عبدالناصر في العام 1964 من أجل فلسطين، فإذ بها اليوم في زمن التفكك العربي تجهد لإقناع الدول باستقبال فعالياتها، بينما تبقى فيها الفعالية رهانا لا يبدو قريب المنال.
وبالطبع لا يكفي إصدار إعلانات طنانة رنانة على شاكلة إعلان نواكشوط (يوليو 2016) يغير نظرة الشباب العربي والرأي العام العربي إزاء اجتماعات يطغى عليها التجاذب في الواقع والتوافق في العلن والكثير من الأقوال مقابل اليسير من التنفيذ والمشاريع الملموسة. يستضيف الأردن هذا الموعد الروتيني في ظروف استثنائية إذ تشهد العديد من الأنحاء العربية ظروفا صعبة وصارت مسرحا للصراعات والإرهاب والاستباحة مع مخاطر التقسيم والتفتت والضياع.
إن الخروج من سحر الفعل والكلمة إلى دائرة الفعل يتطلب تغيير النظرة إلى العرب كـ” ظاهرة صوتية” من خلال وضع النقاط على الحروف، والتعامل بجدية وعقلانية والتطلع إلى النصف الملآن من الكأس وتغليب الواقعية السياسية للحفاظ على ما تبقى من عناصر القوة واستثمارها.
من الصعب توقّع لحظة استثنائية في هذه القمة وبلورة رؤية حد أدنى لمعالجة أو متابعة الأزمات المهددة للدول الوطنية ووقف نزيف الفوضى التدميرية في لعبة الأمم الإقليمية والدولية التي تدور في الديار العربية وعلى حساب المواقع العربية والإنسان العربي.
بيد أنه إذا حصلت صحوة تسهلها رمزية المكان وضخامة التحديات ربما تبدأ الإجابة عن البعض من الأسئلة الجوهرية حول مصير النظام العربي الرسمي في ظل تهميشه والسعي للتنازع عليه من قبل إيران وتركيا وإسرائيل، وكيفية التعامل مع الرئيسين الأميركي والروسي كي لا تحصل إعادة تركيب الشرق الأوسط من دون إعطاء المصالح العربية الاهتمام أو أن يتم التوصل إلى سايكس-بيكو جديدة بدأت ملامحها عبر استخدام الورقة الكردية وتقاسم مناطق النفوذ في سوريا والعراق.
يبدو جدول الأعمال مكثفا كالعادة وأبرز المحاور فيه: القضية الفلسطينية والأزمة السورية والأوضاع في العراق وليبيا، ومحاربة التطرف والإرهاب. بالإضافة إلى تدخّل إيران في شؤون البعض من الدول العربية، ومعضلة النازحين.
ومهما كان الجهد المبذول والنيات صادقة، لا يمكن الرهان على إنجازات أو اختراقات لعدم وجود ديناميكية وقوة استقطاب ومناخ إقليمي أو دولي مؤات، ويكمن الأدهى بالطبع في استمرار الانقسامات والمناكفات وعدم وجود إرادة إنقاذ ليس بسبب النقص في التشخيص أو عدم وجود إدراك لجسامة المهام. لكن كثرة الأزمات تركز هموم كل دولة في محيطها المباشر وتضيع مقولة الأمن القومي والمصالح المشتركة.
يحلو للبعض من أصحاب القرار أو من نُخب الرأي العام تبرير التقاعس أو العجز عبر ترداد مقولة “اتفق العرب على ألّا يتفقوا”، ويحمّل البعض الآخر جامعة الدول العربية مسؤولية عدم إعادة بناء نظام إقليمي عربي فعّال في زمن التجمّعات الكبرى.
هناك تصورات أخرى وأقاويل واعتبارات مرتبطة بالمصالح المباشرة أو التحالفات الظرفية، لكنّ نظرة تاريخية تبيّن لنا أنّ تجربة العمل العربي المشترك مخيّبة للآمال. فجامعة الدول العربية تأسّست في العام 1945 وهي من أقدم المنظمات الإقليمية في العالم وأكثرها انقساماً وأقلها فعالية.
على الصعيد العملي، تجدر الإشارة إلى أنّ فكرة إنشاء سوق عربية مشتركة طرحَها أعضاء في جامعة الدول العربية عام 1953، وحينذاك كانت أوروبا تمتحن فكرة التعاون بين البعض من بلدانها في مجالات إنتاج الحديد والصلب.
يبدو الفارق جلياً بين أوروبا (بالرغم من أزمة الاتحاد الأوروبي الحالية) التي بدأت تجربتها بالخطوات الاقتصادية الملموسة ومن تحت إلى فوق حتى غدت اليوم من كبار الأقطاب الاقتصاديين في العالم. بينما ضاع النظام العربي في السعي إلى التوحيد السياسي من فوق والشعارات، من دون إيلاء الاقتصاد الاهتمام المطلوب وكذلك ديناميكية المصالح المتشابكة الكفيلة بتطويع الانقسامات السياسية.
في الأساس لم تدُم الفترة الذهبية لنواة نظام إقليمي عربي إلّا خلال الفترة الممتدة بين أزمة السويس عام 1956 وحرب يوليو 1967، وذلك تحت قيادة الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر من قيادة مشروع عربي. واكتمل التصدّع العربي مع تداعيات الحقبة الفلسطينية من الأردن إلى لبنان واتّفاق كامب ديفيد عام 1978 إلى أن كانت الضربة القاضية مع سقوط بغداد في ابريل من العام 2003.
إذا تمعّنا عن قرب في مسار اتّفاق أوسلو والأداء العربي الرسمي في تسعينيّات القرن الماضي وبدايات القرن الحالي وتبخّر حلم الدولة الفلسطينية، لاستنتجنا بسرعة أنّ مَن لا يُحسن القيام بالحرب لا يُحسن صناعة السلام.
وإذا أردنا أن نكون مُنصفين في توزيع المسؤوليات عن مصائب الشعوب العربية بين معسكر ما سُمّي بالاعتدال ومعسكر ما سُمّي بالصمود والتصدّي سابقاً والممانعة حالياً، لكان الحكم القاسي على مزايدات جميع الذين اتّخذوا قضية فلسطين شمّاعة ولم ينجحوا في محاربة إسرائيل ولا في التنمية الحقيقية وبناء دول الاستقلال والقانون، بل حجزوا شعوبهم في سجن كبير وحجزوا أيضاً الإبداع العربي والعقل العربي.
ليس إذاً من محور استقرار إقليمي مكرّس بالفعل، بل إنّ النظام العربي الرسمي كان دوماً رهينة أو نتاج تعاون أو تجاذبات القاهرة والرياض وبغداد ودمشق، لكنّ المسألة لا تنحصر بين المشرق وشبه الجزيرة العربية، ومَن يستطيع إنكار المغرب العربي والسودان. يمكن أن تكون قمة العرب الأردنية نقطة انطلاق ايجابية إذا ساد فيها الشعور بالمسؤولية على كل ما عداه.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس