توصيات الخلوة الثالثة عشرة للقاء سيدة الجبل
9 شباط 2017
عقد لقاء سيدة الجبل خلوته السنوية في ٩-٢-٢٠١٧ في اوتيل غبريال الأشرفية، بمشاركة كوكبة من قيادات الراي اللبنانيين.
استهل اللقاء الدكتور فارس سعيد مقدماً التقرير السياسي السنوي، والذي تركز على نقطتين:
- اللحظة السياسية الوطنية التي أدت الى تسوية الرئاسة والحكومة، وقد تنسحب على قانون الانتخابات.
- الخيار المسيحي داخل اللحظة الوطنية.
وناقش المشاركون مضمون التقرير السياسي مدى ساعتين، وكانت مداخلات وافية في السياسة والاقتصاد.
خلصت الخلوة بالتوصيات التالية:
- الخروج من الأحاديات والثنائيات الحزبية والمذهبية داخل كل طائفة، لأن من شأنها إفساد الشراكة الوطنية، وانتقال لبنان من وطن الرسالة والعيش المشترك إلى وطن التقابل والصراع الطائفي.
- التمسك بالدستور ووثيقة الوفاق الوطني، والإلتزام بتطبيق قرارات الشرعية الدولية، لاسيما 1559-1701-1680-1757.
- العمل على إبراز تيار الشرعية التاريخية المسيحية، بكل الوسائل السلمية والديموقراطية، بوصفه التيار المسيحي الذي أسس دولة لبنان الكبير وانتزع الاستقلال وناضل للوصول الى اتفاق الطائف وراكم حتى بلوغ انتفاضة الاستقلال من خلال الندوات واللقاءات.
- التزام تيار الشرعية المسيحية نظام المصلحة العربية ومواجهة الهيمنة الايرانية على لبنان.
- الالتزام بالنضال لبناء دولة مدنيّة كما نص عليها الدستور ووثيقة الوفاق الوطني، على قاعدة مجلسين بعد إلغاء الطائفية السياسية.
- التزام لقاء سيدة الجبل بالعمل في الوسط المسيحي، وبالحوار مع كل الأطراف من اجل بلورة تيار وطني جامع يحمل المسؤولية الوطنية.
- اعتبر المشاركون أنفسهم ملتزمين بتحقيق توصيات “سيدة الجبل” وأعضاء مؤسسين لتيار وطني عابر للطوائف.
*
التقرير السياسي السنوي: الخلوة ١٣ لـ”لقاء سيدة الجبل”
اولاً: في اللحظة الوطنية الراهنة
- أفضى الصراع الداخلي اللبناني، المتراكب على أزمة المنطقة، لا سيما في سوريا والعراق واليمن، إلى تسوية اعتُبرت “مفيدة” لمعظم الأطراف، في ظلّ اختلال آني في ميزان القوى لمصلحة الهجوم الايراني – السوري – الروسي الأخير(معركة حلب)، الذي حدث تحت نظر الإدارة الأميركية السابقة وليس رغماً عنها – كما صوَّرت الدعاية الايرانية لأنصارها – والذي أعقب تراجع “عاصفة الحزم” في اليمن أو مراوحتها، فضلاً عن تبدُّد “انتظارات الربيع العربي” بعد أغراقه في دوّامة الإرهاب والإرهاب المضاد، كما أن الهجوم المشار إليه سبق مباشرةً انتقال قيادة الإدارة الأميركية من الديموقراطيين (أوباما) إلى الجمهوريين (ترامب)، أي قبيل ما أخذ يترتّب على هذا الإنتقال من اختلاف في سياسات التعامل الأميركية مع بعض أطراف النزاع في المنطقة، بصرف النظر عمّا إذا سيكون هذا الاختلاف تكتياُ أو استراتيجياً.
- هذه التسوية اعتُبرت “مفيدة” على الصعيد الوطني العام لأنها أوقفت بالدرحة الأولى انهيار الدولة المتسارع، والذي كان قد وضعها على عتبة “الدولة الفاشلة”. وهي “مفيدة” لكل الأطراف الداخلية لأنها لم تُلغِ۫ أحداً، رغم انطوائها على أرجحية واضحة لصالح الفريق الايراني – السوري، الأمر الذي يتيح وضع كلمة “تسوية” بين مزدوجين. وهي “مفيدة” أيضاً للأطراف الإقليمية والدولية (التي دفعت اللبنانيين إليها، أو رضيت عنها، أو لم تعارضها)، لأنّ من شأنها المساهمة في إبقاء لبنان “حديقة جانبية” صالحة للتأثير الإيجابي في حال اتجاه المنطقة نحو تسوية فعلية. هذا إلى ما يبدو توافقاً ضمنياً فيما بين القوى الكبرى على أن لبنان ليس من شأنه أن يكون مساحة جيوسياسية حاسمة على صعيد الأزمة العامة. وعليه فإننا لا نعتقد بأن التسوية الأخيرة كانت بفعل “مبادرة داخلية خالصة”، ولا كانت “إملاءً خارجياً”، وإنما هي في منزلةٍ بين المنزلتين، خصوصاً وأن البديل عن هذه التسوية هو “الفتنة الدموية”، أي التحاق لبنان عملياً بالأرض السورية المحروقة، فيما ليس لهذا البديل مزاج شعبي وازن وحاضن، رغم الصراخ السياسي – المذهبي الحادّ في بعض الأحيان… أما التسابق الداخلي على ادّعاء أبوّة التسوية أو عِرابتها فلا يعنينا بشيء.
- بَي۫دَ أنّ التسوية اللبنانية المشار إليها لا تبدو مستقرّةً أو ثابتة، ولا تؤشّر إلى أية نهائية.. لأنها مفتوحةٌ على تدافع داخلي مرير (لتحقيق مزيد من المكاسب لدى الفريق الذي عُدَّ رابحاً، ولتحسين شروط التوافق لدى الفريق الآخر، وربما لإرضاء بعض “الزعلانين”). هذا إلى اختلاط المواقع والمواقف السياسية (انتهاء ترسيمة 14 و 8 آذار، من دون اتّضاح ترسيمة بديلة)… والواقع أن انفراط عقد 14 آذار التدريجي قد سبق هذه التسوية بسنوات، وكان بالإمكان أن تكون أكثر توازناً لولا ذاك الإنفراط المبكر.. أما 8 آذار فلم يكن مطروحاً انفراطُه، لأنه بالواقع عبارة عن حزب واحد لديه بعضُ الملحقات وليس ائتلافاً… كذلك لا تبدو هذه التسوية ثابتة ونهائية، لأنها مفتوحةٌ واقعاً وتعريفاً على تطور أزمة المنتطقة، لا سيما في سوريا المفتوحة بدورها على كل الاحتمالات.
□ – خلاصة القول في اللحظة الراهنة أن جوهر الأزمة الوطنية اللبنانية ما زال في مكانه:
- نقص فادح في سيادة الدولة إلى حدّ الهيمنة الايرانية، بما في ذلك سلاح حزب الله المستقلّ عن الدولة والمستقوي على الداخل والمنفلت على غاربه في المنطقة؛
- انسحاب القوى السياسية الرئيسية إلى مربّعاتها المذهبية وحساباتها الخاصة أكثر من وقت مضى، الأمر الذي يجعل من تشكيل رافعة وطنية مشتركة أكثر صعوبة من ذي قبل، بالمقارنة مع ما أمكن حدوثه في مواجهة الهيمنة السورية.. علماً أن الرافعة المشتركة شرطٌ لأي نهوض وطني.
وإذا اعتبرنا جدلاً أن التسوية الأخيرة كانت نوعاً من “تحييد لبنان عن تداعيات الحرب في سوريا”، إلا أنها في الواقع كانت أقرب إلى “التوريط” منها إلى “التحييد”، لأنها حدثت بشروط الفريق الذي كان وما يزال يعلن تأييده للنظام السوري: لم يتغيّر شيء في مواقف حزب الله والتيار العوني من النظام السوري، ولا تغيّر شيء في موقف التيار العوني حيال سلاح حزب الله وقتاله في سوريا – وكلَّ يوم يطالعنا وزير خارجيتنا بالمزيد من الشيء نفسه، حتى لو اصطدم بإجماع عربي – وأخشى ما نخشاه أن تتنزَّل شروط التسوية العابرة هذه على إعادة بناء الدولة، بحيث نغدو بعد قليل أو كثير أمامَ دولةٍ بشروط حزبٍ وطائفة بعينهما!
ذلك هو الثمن الباهظ الذي دفعته ويمكن أن تدفعه المسألة الوطنية، مقابل ما اعتُبر تسوية “مفيدة” أو “اضطرارية”.. ولا يوجد في خارطة القوى الراهنة ما يشكّل ضمانة لعدم الانزلاق، وإن۫ كان هناك ممانعات وتنتيعات من صُلب التكوين اللبناني الذي لا ينبغي الاستهانة به (الجدل الانتخابي مؤشراً).
والحال أننا لسنا هنا في معرض نفي الفوائد النسبية، ولا تجاهُلِ ما سُمّي “اضطرارات” لدى بعض الأطراف، ولا تسخيف ما يرجوه الرأي العام ويرتاح إليه من تهدئة داخلية تخفّف من وطأة بعض الهواجس (أكانت فعليّةً أو مفتعلة)، كما تُتيح الانصراف إلى معالجة المسائل الحياتية الملحّة من طريق تفعيل مؤسسات الدولة بعد تعطيلٍ طال أمدُه… ولكننا في الوقت عينه نرفض المبالغات، إيجاباً أو سلباً، بحيث يتّخذ البعض من هذه المبالغات ذريعةً للانحراف السافر أو المقنّع عن معنى لبنان المتجسِّد في: العيش المشترك أولاً؛ الدولة السيّدة المستقلّة ثانياً؛ وثيقة الوفاق الوطني في الطائف والدستور القائم ثالثاً؛ التزام الشرعة العالمية لحقوق الانسان وقرارات الشرعية الدولية رابعاً؛ التزام نظام المصلحة العربية المشتركة في محيطه الإقليمي والدولي خامسا.
إنَّ انحرافاً عن هذا المعنى الذي خوَّل لبنان أن يكون أكثر من بلد، أن يكون “رسالة”، لن يُبقيَ من لبنانيته سوى شكليات غير صالحة إلا للاستخدام في لعبة الأمم، الأمر الذي يُفقده كثيراً من مبررات وجوده بوصفه وطناً نهائياً لجميع أبنائه.
ثانياً: الخصوصية المسيحية في إطار الحالة اللبنانية واللحظة الوطنية الراهنة
- إنّ نظرتنا إلى الخصوصية المسيحية لا تنفصل عن نظرتنا إلى معنى لبنان الذي اشرنا إليه أعلاه بمقوّماته الخمس الأساسية… واسمحوا لي أن أكرّرها: العيش المشترك؛ الدولة السيّدة المستقلة؛ وثيقة الوفاق الوطني والدستور؛ التزام الشرعة العالمية لحقوق الانسان وقرارات الشرعية الدولية؛ التزام نظام المصلحة العربية المشتركة في محيطه الإقليمي والدولي.
- هذه المقومات مجتمعةً شكّلت اساسَ ما نسمّيه “تيار الشرعية التاريخية في الوسط المسيحي اللبناني”… وهو التيار الذي – بالتضامن والشراكة مع نظرائه في الأوسلاط اللبنانية الأخرى – انعقد عليه معنى لبنان ودوره واستقلاله في مختلف المراحل: منذ انطلاق مطلب الكيان عام 1919 بمفهوم “الوطنية السياسية لا الدينية”، كما جاء في الرسالة التي حملها البطريرك الياس الحويك باسم مختلف الجماعات اللبنانية إلى مؤتمر الصلح في باريس، مروراً بالاستقلال الأول والميثاق الوطني 1943، تم بالمساعي الجادّة لإقامة دولة القانون والمؤسسات الحامية للاستقلال والحاضنة للعيش المشترك لا سيما في الحقبتين الدستورية والشهابية، ثم بمقاومة الهيمنات والوصايات الخارجية التي من شأنها تحويل لبنان عن معناه (أكانت هيمنة فلسطينية أو إسرائيلية او سورية أو ايرانية، بما في ذلك هيمنة الميليشيات المسلحة المرتبطة بالخارج)، وصولاً إلى استقلال 2005 الذي بيّن بما لا يدع مجالاً للشك أن لحظة المصالحة الداخلية هي لحظةُ الاستقلال وشرطُه اللازم.
- ولا يُخفى على الذين واكبوا هذا المسار التاريخي، سواءٌ في حياتهم أو بوعيهم، أن الكنيسة المارونية كانت على الدوام في صُلب هذا التيار وفي ريادته (ونرجو من الموارنة ومن أحبارهم خصوصاً أن يراجعوا نصوص المجمع البطريركي الماروني لعام 2006، ولا سيما نصّ “الكنيسة المارونية والسياسة”). كذلك لا يخفى أن هذا التيار ..- الممثّل حقاً للشرعية التاريخية في الوسط المسيحي، لأنه يستلهم معنى لبنان، ويستلهم خصوصاً خيار المسيحيين اللبنانيين الأصلي بـ “الشهادة لإيمانهم في إطار العيش المشترك مع الآخر المختلف وليس في معازل خاصة”، كما بيّنت بوضوح تعاليم المجمع البطريركي الماروني، ورسائل بطاركة الشرق الكاثوليك المتعاقبة، وإرشاد البابا يوحنا بولس الثاني الرسولي عام 1997، وإرشاد البابا بنديكتوس السادس عشر الرسولي عام 2012…) – نقول: إنّ هذا التيار كان في مغالبة دائمة مع “تيار الطائفية السياسية” الذي يقدّم الخاص على العام: الخاص الحزبي أو الشخصي الزعاماتي على العام المسيحي، والخاص المسيحي على العام اللبناني، على قاعدة “لبنان للمسيحيين، والمسيحيون لأحزاب بعينها، والأحزاب لأسر وأشخاص بعينهم“!!
- إن قاعدة الاختزال هذه (اختزال لبنان بطائفة، واختزال الطائفة بحزب واختزال الحزب بزعامة، واختزال السياسة بالسلطة..) لم تبقََ مسيحية، بل تعمَّمت على سائر الطائفيات السياسية، فانتقلت العدوى من المارونية السياسية إلى السنية السياسية فالشيعية السياسية، بحيث بات على كل طائفية سياسية أن تخوض على الدوام حربين في آن معاً، وتُدخل البلاد كلّها في هاتين الحربين: حربٌ داخل الطائفة لحسم مسألة الزعامة والإمرة فيها، وحربٌ مع الطوائف الأخرى لتعيين حصّتها في الدولة… ولما كانت قاعدة الاختزال هذه فاسدة، لأنها تقوم على الانتهازية وتوسُّلِ موازين القوى العابرة، ولو على حساب معنى لبنان والشراكة الحقيقة، ليس غريباً أن يتجسَّد أمام أعيننا بيت الشعر الذي يقول:
أُعلِّمُهُ الرمايةَ كلَّ يومٍ ———– فلما اشتدَّ ساعِدُهُ رماني!
أي أن نرى الآن وهنا بعض الطائفيات السياسية الأخرى التي تقول بلسانها وسلاحها وموازين القوى العابرة: “لبنان لطائفتنا، وطائفتنا لحزبنا، وحزبُنا لقائده الأوحد ومرشده الأعلى!”…
- لم يحدث في تاريخ حياتنا السياسية أن۫ كانت شهيّةُ الاختزال السياسي – الطائفي مفتوحةً ومتوحّشةً كما هي اليوم!… والأنكى أن هذا الاختزال يتمُّ بمراسم احتفالية على طبول شعاراتٍ من نوع “استعادة الحقوق السليبة والدفاع عن كيانات مهدّدة”!… وفي المجال المسيحي خصوصاً، نعتقد أن هذا الضياع السياسي إنما يعود إلى انحرافٍ في النظرة إلى الذات، والتحوُّل عن مفهوم “الجماعة المتفاعلة مع محيطها” إلى مفهوم “الأقلية الخائفة”، الأمر الذي تعبّر عنه بوضوح تلك النزعة إلى شعار “تحالف الأقليات ضدّ الأكثرية في المنطقة”، والتي تبدأ من قانون الانتخابات النيابية ولا تنتهي بمطلب “الحماية الدولية للأقليات”.
-
إن “لقاء سيدة الجبل”، في خلوته السنوية الثالثة عشر هذه، إنما يريد التأكيد على انتمائه الثابت والمتواصل إلى تيار الشرعية التاريخية في الوسط المسيحي وإلى معنى لبنان كما عرفناه وكما نريده الآن أكثر من اي وقت مضى… وإذ نرجو أن تساهم هذه الخلوة في إعادة تظهير الخيار المسيحي اللبناني، مقابلَ ما نرى من انحرافات، فإننا منفتحون كلياً على الحوار الداخلي، ومنفتحون بالقوة ذاتها على نظرائنا وشركائنا في الجماعات اللبنانية الأخرى، في إطار المعنى اللبناني الذي يجسّد الوحدة في التنوّع أو التنوّع في الوحدة.