إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
تصعبُ، ولا تصح، النجاة، بالمعنى الشخصي والعام، من حادثة فقدان إلياس خوري، فمن حقه علينا، وواجبنا، أن نجعل من الحادثة نفسها مناسبة لاستكشاف صعوبة النجاة. وأوّل الخيط، هنا، أن الياس يختزل الكثير من المعاني فلو قلنا إنه روائي لأرغمتنا رواياته على الاستطراد في اتجاه لا يقترن، بالضرورة، بجنس الرواية. ولو قلنا إنه لبناني لأرغمتنا سيرته على الكلام عن الهوية. ولو قلنا إنه مناضل لأعادتنا السيرة إلى الهوية. ولو قلنا إنه فلسطيني، أو مثقف ملتزم، وعروبي، لأرغمتنا السيرة والهوية والروايات على الاستطراد في تعريف ما لا يختزله تعريف، ولا يُطلق على علاّته.
هو، إذاً، وسيلة إيضاح لمعنى المتعدد في واحد. الغاية التي ترنو إليها أبصار الكثيرين، خاصة بين العاملين في الحقل الثقافي، ليرتد عنها البصر بعد زمان،قد يطول أو يقصر، وهو كليل. ولكيلا تأخذنا الظنون فالفوز عير مشروط بالحظ أو الموهبة، فكلاهما ليس بالضمانة الكافية لتكون المتعدد في واحد.
ثمة مؤهلات لا تطالها الموهبة، ولا يستدرجها الحظ إلى شباكه، كالنزاهة الشخصية، مثلاً، والإيمان، والحب، والولع الطفولي بملاحقة الأحلام، حتى وإن غدرت، والبقاء على الدفة في سفينة شرقت بالماء، حتى وإن جنحت. ومع ذلك، حتى هذا كله لا يكفي إلا إذا جاء مشروطاً بمكان بعينه، وفي لحظة بعينها، إلى حد نعثر فيه على ما ترك الاثنان من أقدار على السيرة وصاحبها، كأنهاوحمات الولادة التصقت بها وبه، كما تلتصق وحمات الولادة بالجلد.
ومع هذا في الذهن، نطل على بيروت أواخر الستينيات، وعلى صعود الحركة الفدائية، بعد الهزيمة الحزيرانية، كشرطين إلزاميين، ومُركبين عضويين، في سيرة المتعددة في واحد، إلى حد تُغني فيه السيرة نفسها، مرئية بأثر رجعي، ومن شرفة ما آلت إليه، لا ما بدأت به، معنى المكان اللبناني، والظاهرة الفلسطينية معاً، وفي آن.
لا معنى لإلياس خوري بلا بيروت، وبعيداً عن بيروت. وهذا لن يكون مفهوماً دون التسليم بحقيقة أن فكرة لبنان، كما علاقته بنفسه، وعلاقة الآخرين به، كانت، وما زالت، مأزومة لأسباب جغرافية وديمغرافية وسياسية عمرها من عمر الكيان اللبناني، الذي وضعته صراعات إقليمية ودولية، وما يقترن بها، وتستدعي، من سياسات وأيديولوجيات، على خط التماس. وقد انعكس هذا كله في بيروت وعليها.
نعثر على الصراعات المعنية، بما يقترن بها، وما تستدعي، في البطانة العميقة لمعنى أن تكون مثقفاً ووطنياً لبنانياً في أواخر الستينيات (كما كان الحال في عقود سبقت، ولكن مع أسئلة من نوع آخر). لذا، لا يمثل الجواب خياراً شخصياً وحسب، بل ويمثل اقتراحاً لحل الأزمة، أيضاً. وهذا، في الواقع، مصدر غنى، وتعدد، وفرادة الحالة اللبنانية، رغم ما يلاحقها من ضرائب باهظة.
وبهذا المعنى، ولكي نفهم جيل الياس خوري، ورفاقه من الشبان والشابات اللبنانيين، الذين التحقوا بالحركة الفدائية الصاعدة بعد الهزيمة الحزيرانية، ونكللهم بما يليق بهم من العرفان وأكاليل المجد، فلنقل: إنما فعلوا هذا تعبيراً عن اقتراح لمعنى أن تكون وطنياً لبنانياً وعربياً بما يكفل تحرير الهوية من الأزمة، وتحريرهم من اقتراحات محتملة لهويات ضيّقة.
سيأخذنا هذا، بدوره، إلى الأفق الذي فتحته الحركة الفدائية الصاعدة، وإلى الحالة الفلسطينية، التي تقترب إلى حد ما من الحالة اللبنانية، حيث فكرة فلسطين، كما علاقتها بنفسها، وعلاقة الآخرين بها، مأزومة لأسباب جغرافية وديمغرافية وسياسية. ومع هذا في البال، سنفهم لماذا كان صعود هوية الوطنية الفلسطينية العلمانية، كما بدت في أواخر الستينيات، ومطلع السبعينيات، فتحاً لأفق لا يمثل اقتراحاً لهويات جديدة وحسب، بل ويجعل من احتمال هويات كهذه فكرة ثورية تماماً.
لا يولد المتعدد في واحد دفعة واحدة، بل على دفعات، وعليه من وقت إلى آخر، خاصة في زمن الهزائم والخيبات، لعق الجراح، واحصاء الخسائر، والتخلّص مما على ظهر سفينة جنحت من حمولة زائدة. هذا طبيعي، ومنطقي، وإنساني، أيضاً. وبهذا المعنى، يُحسب لإلياس خوري أنه لم يحص خسائر، ولم يلعق جراحاً، ولا تبرّم من حمولات زائدة (بصورة علنية على الأقل) بل شاب على ما شب عليه.
وهذا بيت القصيد: شب على أفق فتحته فلسطين، وشاب حريصاً على ماانفتح من أفق أغلقه الواقع، لاحقاً، وبقي مشرعاً في ذاكرته، كعامل ينظف الزجاج النوافذ في بناية شب فيها حريق، وفي الأثناء كتب سيرة فلسطينالروائية فكان أعظم روائييها.
في مساء بعيد، خرجنا من الحانة للتدخين، على الباب، تحت ضوء خافت، في مدينة أوروبية يغمرها الثلج. دخّنا صامتين، فجأة أمسك ذراعي بقوّة، وروى كيف زار منشأة عسكرية في الجنوب اللبناني، وما رأى هناك من أسلحة متطورة، وتقنيات حديثة، وقدرات مُذهلة.
قال: وجدت عندهم ما كان يجب أن يكون عندنا. لم أجد صعوبة، آنذاك، كما لا أجد الآن، في فهم أنه تكلّم بضمير “هم” و”نحن”، عن “عندنا”، وفي ذهنهأبناء جيله من الشبّان والشابات، الذين سحرتهم فتنة ما انفتح من أفق فيأواخر الستينيات، فأبحروا في زرقة البعيد، والبعض لم يعد، كأنه يقول:
لو كان “عندنا” هذا كله لتغيّرت نتيجة الحرب. ولكن ما غاب عن الذهن، حينها، وقد عثرت عليه الآن، أن المساء البعيد يصلح وسيلة إيضاح إضافية لمعنى أن تشهد للمتعدد في واحد، وعليه، علاقة سوية بين البدايات والنهايات، “بين المطالع وهي ثنائية والختام الأحادي” كما قال محمودنا، الذي اختم كلامي عنك اليوم، يا الياس، برثائه لنفسه: “تحيا الحياة”.