إنها بلدة كبيرة ضائعة على أبواب الصحراءالعراقية، في السهل الممتد بين دجلة والفرات، على جانبي الحدود الوهمية التي كانت تفصل بين دولتي سوريا والعراق الفاشلتين قبل نشوء “الدولة الإسلامية”. إن “تل عفر” (أو “تلعفر”) المجهولة، التي سقطت في أيدي الجهاديين في ١٦ يونيو ٢٠١٤ مباشرةً بعد سقوط “الموصل” تظل مغيّبة في ظل “الموصل” التي أعلنها أبو بكر البغدادي “عاصمة” لدولته. وهذا مع أن عدداً من أبرز قادة “داعش” هم من أبناء هذه البلدة المتميزة في تركيبتها: فهي عبارة عن جيب “تركماني” (سكانها ٢٢٠ ألف نسمة، كلهم “تركمان”- الشفاف) في منطقة تقطنها أغلبية عربية.
يشير المربّع البني إلى منطقة نفوذ “الدولة الإسلامية. السهم البنّي المتّجه نحو الأسفل: الحملات التي شنّتها قوات “الدولة الإسلامية” في شهري مايو ويونيو. الخط الأفقي يشير إلى الحدود السورية-العراقية التي لم تعد قائمة.
إن تركيبة الهيئات القيادية في “دولة الخلافة” تظلّ مجهولة إلى حدّ كبير، ولكن بعض المعلومات التي سمحت واشنطن بنشرها تبرز الدور الذي يلعبه ضباط عراقيون سابقون كبار في قيادة “الدولة الإسلامية”.
أحد هؤلاء هو “فضل أحمد عبدالله الهيالي”، الذي أُعلِنت وفاته في أواخر ٢٠١٤، وهو ضابط سابق في الإستخبارات العسكرية العراقية، ثم في القوات الخاصة لـ”الحرس الجمهوري” في عهد صدّام حسين، وكان معروفاً عند انضمامه إلى التمرّد السنّي بإسم “أبو مسلم التركماني”.
كان “الهيالي” مكلّفاً بالإشراف على إدارة المناطق العراقية الخاضعة لـ”الدولة الإسلامية”، وقد تقاسمَ مع تلعفاري آخر، يُعرَف بإسم “أبو علي الأنباري”، وهو لواء سابق في الجيش العراقي، منصب “الرقم ٢” في “الدولة الإسلامية”.
وعلاوة على هذين الضابطين السابقين، هنالك “أبو علاء العفري”، وهو من قدامى الجهاد الدولي، وهو بدوره تركماني من “تل عفر” بات مسؤولاً عن قيادة “الدولة الإسلامية” بعد إصابة “أبو بكر البغدادي” بجروح خطرة في شهر مارس ٢٠١٥ حسب معلومات جريدة “الغارديان” البريطانية. وخلف الثلاثة هنالك عدد كبير من الضباط السابقين ومن المقاتلين من أبناء “تل عفر” الذين نشرتهم “الدولة الإسلامية” على كل الجبهات.
ويقول “هشام الهاشمي”، وهو محلّل عراقي متخصص في شؤون “داعش” أن “أبناء تل عفر وصلوا إلى مراكز قيادية كلّ بطريقته الخاصة، ولكنها عدداً منهم بات عضواً في أعلى حلقة قيادية في “داعش”. وقد امتازوا عن غيرهم بولائهم الكامل للبغدادي، وبإخلاصهم المطلق لرئيسهم”.
نظام مافيوي وإرهابي
ويذكّر هذا الولاء الكامل بولائهم السابق لصدام حسين قبل الغزو الأميركي في العام ٢٠٠٣. ويقول جنرال سابق في الجيش العراقي من أبناء “تل عفر”- وهو حالياً لاجئ في بغداد- أن “أهالي تل عَفَر السنّة كانوا مشهورين كمصدر لتجنيد قيادات عليا في الجيش العراقي في عهد صدام”.
وبعد العام ١٩٩١، وهزيمة العراق في الكويت، قام النظام بانعطافة إيديولوجية نحو الإسلاموية ما تزال عواقبها ظاهرة حتى الآن. فظهرت كلمتا “الله وأكبر” على العلم العراقي، ثم بدأ تطبيق عقوبات جسدية مستوحاة من الشريعة، مثل قطع يد السارق.
ويذكر أحد وجهاء “تل عَفَر” وهو الآن لاجئ ف “أربيل” بكردستان العراق أنه “كان لـ”حَملة الإيمان” وَقع خاص في “تل عفر”، وبدأ السلفيون يلعبون دوراً أكبر في تل الحقبة واستفادوا من قاعدة صلبة من المناصرين في البلدة”. ويضيف أحد سكان البلدة الشيعة أن “أبو علاء العفري كان أحد المشايخ المعروفين على نطاقٍ واسع في تلك الفترة”.
ويعلّق موظفي حكومي أصله من “تل عَفَر” أن “الأرضية في البلدة كانت ملائمة لنشوء انتفاضة إسلامية في لحظة سقوط نظام صدام حسين”. وجاء قرار حلّ الجيش العراقي الذي اتخذته سلطات الإحتلال الأميركي ليُنجِزَ هذا التطوّر، سواءً في “تل عَفَر” أو في العراق السنّي عموماً.
ويقول الجنرال السابق من “تل عَفَر”: وجد عشرات الألوف من العسكريين السابقين أنفسهم عاطلين عن العمل وبدون رواتب، ولكنهم جميعاً احتفظوا بأسلحتهم. وفي “تل عَفَر”، حيث كانت للجيش مكانة خاصة، سرعان ما انتظمت نواة من الضباط السابقين لمقاومة الإحتلال. ولم يمضِ وقت طويل حتى تغلغلت “القاعدة في العراق” في تلك النواة وشرعت بتدريبهم على اشكال الإرهاب. وهؤلاء أنفسهم هم الذين اكتسبوا أهمية في “داعش” والذين نسمع بإسمائهم الآن”.
ويضيف أن النزاع سرعان ما اتخذ طابعاً طائفياً: “في البداية، كانوا يقاتلون ضد الأميركيين. ولكن، حيث أن الجيش العراقي الجديد بات خاضعاً لقيادة شيعية، فقد بدأ السنّة بمهاجمة شيعة “تل عَفَر” الذين كانوا يتمتّعون بدعم الحكومة المركزية”. ويقول أحد سكان “تل عَفَر” السابقين من الشيعة أن “الطوائف انقسمت في ظل الإحتلال”. ويضيف: “لم يكن يمضي أسبوع دون حدوث اعتقالات في أحياء السنّة، وتفجيرات في أحياء الشيعة”.
ونتيجة لأعمال العنف، وهرباً من الإنتشار المتزايد للقوات الأميركية في البلدة، فقد فرّ قسم من الأهالي السنّة إلى “الموصل”. ويقول الجنرال السابق أن “الموصل أكبر بكثير من “تل عَفَر”، مما يسمح للتمردين بالإختفاء بين أهاليها وبالإفلات من مداهمات الجيش النظامي”. ويقول مسؤول كردي رفيع المستوى كان يعيش في “الموصل” أن”التلعفريين” لعبوا دوراً كبيراً في تأسيس “النظام المافيوي والإرهابي” الذي كان يستند إلى “الخوّة المعمّمة”، والتفجيرات الإرهابية، وعمليات الإغتيال، والذي سمح لهم تدريجياً بالسيطرة الفعلية على المدينة قبل أن يغزوها مقاتلو “الدولة الإسلامية” في يونيو ٢٠١٤.
“كل الشيعة رحلوا”
كانت “القاعدة في العراق” تملك كل المصلحة في الرهان على “تل عَفَر”. فموقعها القريب من الحدود السورية جعل منها محطة إجبارية على الطريق نحو العراق التي كان يسلكها المقاتلون الأجانب الراغبون في الإنضمام لـ”القاعدة”- وذلك بتواطؤ ضمني من نظام دمشق.
ويقول الموظف الحكومي السابق أن “أجهزة الإستخبارات السورية كانت متواجدة بكثافة في “تل عَفَر” أثناء الإحتلال الأميركي. وكانت تسمح للمتطوّعين في “القاعدة” بالتدرّب في الجانب السوري من الحدود، كما كانت تسهّل وصول المقاتلين والأسلحة إلى الجانب العراقي“.
وحسب الوجيه السابق الذي ما يزال على صلة مع أقاربه الباقين في البلدة، فإن “تل عَفَر” ما تزال تلعب وظيفة استقبال المقاتلين الأجانب: “إنهم ينتشرون في كل مكان. وهم من جميع الجنسيات. وحيث أن كل شيعة “تل عَفَر” قد رحلوا عنها، فهنالك منازل كثيرة لاستقبالهم”.
ويضيف “هشام الهاشمي” أن “تل عَفَر” هي مركز لوجستي كما أنها قاعدة خلفية محتملة: “لقد جهّزت “داعش” الكثيؤر من العمليات الإرهابية الإنتحارية في “تل عَفَر”، وهي تملك العديد من معسكرات التدريب فيها، وخصوصاً معسكرات تدريب الأجانب. إن الأهالي يؤيدون “داعش” منذ مدة طويلة، وإذا ما شعر التنظيم أنه مهدّد فمن المحتمل أن يتحصّن فيها”.
مراسل جريدة “لوموند” الفرنسية “ألان كافال”