كثيرون انزعجوا من استخدام الرئيس الأميركي دونالد ترامب وصف “الإسلام المتطرف” في خطابه الأول بعد تقلّده مهامه في 20 يناير.
ولو كنت مكانه في هذا الخطاب لاخترت وصف “الإسلام غير الحداثي”، فهو يشمل رؤية المتطرفين وغير المتطرفين حول الإسلام والتي هي رؤية غير حداثية.
لكن هل يمكن أن يكون هناك إسلام حداثي وإسلام آخر غير حداثي؟
وضع ترامب وصفَ “الإسلام المتطرف” في صلب سياسته الخارجية وتعهد العمل مع حلفاء بلاده للقضاء على تهديدات المتشددين. وقال في خطابه “سنعزّز التحالفات القديمة ونشكّل تحالفات جديدة ونوحّد العالم المتحضّر ضد الإرهاب الإسلامي المتطرف الذي سنزيله تماما من على وجه الأرض“. وخلال سعيه للحصول على ترشيح حزبه الجمهوري لانتخابات الرئاسة كان ترامب أكد أن وقف انتشار “التطرف الإسلامي” سيكون أولوية إدارته في حال فوزه بمنصب الرئيس. وقال وقتها في كلمة شرح فيها سياسته الخارجية إن “احتواء انتشار التطرف الإسلامي هو أحد أهم أهداف السياسة الخارجية للولايات المتحدة وكذلك العالم”.
وعودة إلى مسألة الإسلام الحداثي والإسلام غير الحداثي، هناك سعي حثيث وغير منته من قبل مفّكرين وباحثين في الشأن الديني لطرح فهم جديد للإسلام يكون متوافقا مع معايير الحياة الراهنة أو مع الحداثة. لذلك، لابد من التأكيد بداية على أنه لا يوجد في واقع الفهم الديني الراهن شيء اسمه “فهم واحد محدّد ونهائي” حول الإسلام، بل هناك أفهام كثيرة، مختلفة التوجهات، تنتمي إلى حقب تاريخية مختلفة، ومذاهب متعددة، بل يسري تنوّعها واختلافها في داخل كل مذهب، وبعض الأفهام تبتعد مسافات زمنية كبيرة عن معايير الحياة الحديثة، وبعضها تحاول بشكل من الأشكال الاقتراب من تلك الحياة والتوافق معها. وفي واقع الأمر لم يتم حتى الآن التوصّل إلى فهم للإسلام يمكن أن يتعايش بصورة واضحة وجريئة وواقعية مع الحداثة.
ويجب الإشارة إلى أن الواقع الراهن يهيمن عليه ثلاثة أنواع من الفهم الإسلامي: التقليدي، والأيديولوجي/السياسي، والمتجدّد.
من بين هذه الأنواع، يتصف الثاني بتركيزه على تحقيق الحكومة الإسلامية، لذا هو إسلام سياسي وينقسم إلى قسمين: متشدّد عنيف، ومعتدل قد يتبنى العنف إذا دعت حاجته ومصالحه إلى ذلك. في حين أن الإسلام التقليدي غير عنيف رغم تبنيه رؤى إقصائية، كإيمانه بإقصاء المرتد، لكن مجاله العام الرئيسي هو التديّن التقليدي الخرافي المتصالح مع الطرح السياسي غير الديني، أي أنه ينهل من الرؤى الخرافية/التاريخية التي يعتبرها أساس توجهه ودعامة استمراره كما لا يمانع العيش في ظل الدولة غير الدينية.
بينما يسعى الإسلام المتجدّد إلى طرح رؤى قريبة من المفاهيم الحداثية، غير أنه لم يوفّق حتى الآن في تحقيق مُصالحة واقعية وجريئة مع الحداثة، وأعتقد بأنه يسعى بقوة إلى تحقيق تلك المُصالحة على الرغم من أن مهمته ستكون صعبة، حيث سيضطر في وسط الطريق إلى الخروج عن السكّة الدينية التقليدية والتنازل عن الكثير مما يسمى بثوابت الدين التاريخية، من أجل تحقيق هذه المصالحة، على سبيل المثال سيضطر إلى التنازل عن أي التزام عقدي وسلوكي مرتبط بنصوص تشريعية صريحة، كالمسائل الحقوقية الحديثة، مثل حقوق المرأة، وحقوق المغاير دينيا، وحقوق المختلف في إطار نفس الدين أو في إطار المذهب الواحد، أو الاعتراف بالحقوق الإنسانية الجدلية، كحقوق المثليين، وحقوق الملحدين وغير ذلك. أي أنه سيضطر في نهاية الأمر إلى التنازل عمّا يمكن أن يُعتبر أساسا أصيلا في المبنى الديني الراهن، وأي تخلّي عن هذا الأساس يُعتبر عند الكثير من مدارس الفهم الديني خروجا صريحا عن الدين.
ويؤكد الكثير من الباحثين العاملين في الشأن الديني وجود علاقة مباشرة بين التطرّف الإسلامي وبين التاريخ الإسلامي. ويجب الإشارة إلى أن هذا التاريخ يحمل عنوانين بارزين ضمن عناوين أخرى عديدة، وهما: العنف الديني في إطار واقعه الثقافي/الاجتماعي، والشأن الغيبي الخرافي الديني في إطار هيمنة الأمر الديني على مختلف شؤون المجتمع. ويمكن أن نطلق على الشأن الغيبي الخرافي بأنه أس الفهم التقليدي للإسلام، بينما يمكن أن نطلق على العنف (كمحصلة للواقع الثقافي/الاجتماعي القديم وما يحمل من عادات وتقاليد وتشريعات وسلوكيات تنهل من الدين وممّا كان يمارسه السلف) بأنه يمثل أس التطرف الإسلامي اليوم. ومما لا شك فيه أن التطرف الديني بات يسمى راهنا تطرفا لأنه ليس ابنا للبيئة الثقافية والاجتماعية لعالم اليوم، فهو عاش في إطار بيئته القديمة وخضع لميزانها التاريخي الثقافي/الاجتماعي، وحينما قام مسلمو اليوم بتقليد سلوك البيئة الدينية القديمة تم اتهامهم بالتطرف. فبعد تطوّر صور الحياة وتغيّر معاييرها في الوقت الراهن، اختل الميزان، خاصة في علاقته بالتغيّر الثقافي/الحقوقي، فبات أي تقليد لاستخدام القوة عبر صور التاريخ الإسلامي ومن ثَمّ أي دعوة لتركيب الماضي على الحاضر بمثابة تبني للتطرف والعنف.
إنّ الحداثة تفرض شروطا على أي دين أو عقيدة أو أيديولوجيا أو مدرسة فكرية تريد أن تعيش في ظلها. بمعنى إننا اليوم مجبرون على العيش بصورة حداثية بسبب هيمنة المفاهيم والمعايير والرؤى والوسائل والرغبات الحداثية على حياتنا. والأديان، ومنها الدين الإسلامي، ليست استثناء في هذا الإطار. وعليه، نستطيع أن نطلق على الإسلام وصف الحداثي إذا استطاع بصورة واضحة وصريحة أن يتصالح مع مفاهيم ومعايير ورؤى الحداثة، خاصة مع الجانب الحقوقي منها، وهذا يستدعي من أي فهم إسلامي حداثي على سبيل المثال التخلي عن الكثير من رؤاه المخالفة لحقوق الإنسان الحديثة. ورغم وجود محاولات قليلة جدا وغير منتهية لكنها جريئة لطرح مفهوم الإسلام الحداثي اليوم، وعلى الرغم من تعرّض تلك المحاولات لضغوط لمنعها من أداء مهامها وعرقلة أي تأثير لها على المجتمع، غير أنها سعت في طرحها المعرفي إلى أن تستند إلى المصالحة مع الحداثة وخاصة مع جانبها الحقوقي.
لذلك، لا يمكن الاتفاق مع قول الرئيس الأميركي الجديد من أنه سيعزز التحالفات القديمة ويشكل تحالفات جديدة ويوحّد العالم المتحضّر ضد الإرهاب الإسلامي المتطرف “الذي سنزيله تماما من على وجه الأرض”. فترامب ينتقد الإسلام المتطرف انطلاقا من المصلحة السياسية لا انطلاقا من دعم بديل ديني معرفي متصالح مع الحداثة، ويحاول أن يعالج المعضلة عن طريق الحرب. أي أن نظرة ترامب سياسية/مصلحية، وهي يمكن أن تتغير إذا استجدت ظروف وأدّت إلى توافق التطرف الديني مع سياساته. فنحن إزاء ظرف ترامبي فيه اختلاف بالمصالح وتهديد لها ليس إلاّ، في حين كان يجب أن نكون إزاء مواجهة بين رؤية دينية تاريخية متعارضة مع الراهن الجديد وأخرى لابد أن تكون متصالحة مع هذا الراهن. وكلنا يتذكر اتفاق الولايات المتحدة مع الأصولية السياسية السنّية المؤدلجة في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي حينما كان الاتحاد السوفييتي يعتبر عدوا مشتركا للاثنين. فترامب إذاً، أشار إلى مشكلة التطرف الديني، وهنا يمكن الاتفاق مع إشارته، لكن لا يمكن لهذه الإشارة المغلّفة بالمصلحة السياسية أن تكون حلا لمعالجة التطرف الديني، فهذا التطرف لا يُعالجه السياسيون، بل يعالجه التغيّر الاجتماعي/الثقافي الذي يحرّكه صنّاع المعرفة.
*كاتب من الكويت
ssultann@hotmail.com
يقول فاخر السلطان أن التطرف( الديني) لا يُعالجه السياسيون، بل يعالجه التغيّر الاجتماعي/الثقافي الذي يحرّكه صنّاع المعرفة. هل هنالك، في الإسلام، على هذا « التغيّر الاجتماعي/الثقافي الذي يحرّكه صنّاع المعرفة »؟ أم أن تجربة الإصلاح الديني الإسلامي كانت دائماً مرتبطة بما يسميه فاخر « السياسيون »ـ أي بـ »السلطة »؟ وهذا ابتداءً من محاولة الخليفة « المامون » لفرض فكرة « خلق القرآن » في العام ٨٣٣؟ ومروراً بالإمبراطورية العثمانية التي لم تتقدّم، في المجال الديني، سوى « بفضل » الضغوط الأوروبية؟ ما يلي أسطر من مقال نشره « الشفاف » قبل أشهر، وكتبه طلال الحسيني (الرابط هو: http://wp.me/p6sGh8-3u6)، عن قبول الدولة العثمانية بـ »حق الردّة » في القرن التاسع عشر، « بفضل » الضغوط البريطانية. جاء في… قراءة المزيد ..