في هذه الحرب التي اورثتنا الخراب والموت باشكال قديمة وجديدة متكاثرة نقف أمام حالات غير مختبرة سابقا، وجدانيا أو سياسيا، وعلينا أن نختار. نختار الأسهل غالباً كما هي غريزة الانسان، لكن الاسهل غالباً ما يكون باباً لخيارات أصعب ومواقع أسوأ .
العقل يقول ان علينا أحياناً اختيار الأصعب، لأنه الأسلم، وقد نختار الأسهل أو الاضمن! انه شيء محير حتى للعقل الذي يمكن ان يخدع لأنه لا يملك خبرة سابقة يقيس عليها …
من بين الخيارات المفروضة علينا هذه الأيام، بفضل الحرب السورية، هذه المقارنة بين العودة إلى حضن النظام او البقاء في الغربة بعيدا عن الوطن، الاختيار بين الموت وبين الانضمام لـ”داعش”، الاختيار بين الفصل من الوظيفة أو الانضمام للفرقة الخامسة، الاختيار بين زيارة إسرائيل بغاية إسقاط النظام، او بقاء النظام….
ما هو الخيار الأقل سوءاً بين هذه الخيارات؟ ما هو الخيار المميت بينها؟ هل هو الخيار الاسهل او الاصعب؟ ما هو الخيار الجيد الآن لكن الذي يمكن أن يصبح الخيارَ السيء غداً أو بعد غد؟
هناك الكثير من الأسئلة والمقارنات أقرب الى الافتراضية منها إلى الواقعية، لأنها أسئلة جديدة غير مختبرة، وإلى أن تصبح أسئلة واقعية يجب أن نمر في تجربتها، وندفع ثمن التجربة، لكن ثمن التجربة دائماً هو أقل من ثمن الخوف من التجربة…
ايضا من بين هذه الأسئلة أو الخيارات المحيرة المستجدة على السوريين التي يفرض عليهم الواقع الإجابة عنها سؤال يتكرر بين الفينة والأخرى، وقد عاد إلى الظهور قبل أيام، يتعلق بقصف طيران إسرائيلي لمطار المزة.
ترى ماذا يجب أن يكون موقف السوريين حيال هذا الأمر؟
هنا لن ينفع التحليل السياسي أو سواه، لهذا سنلجا إلى التخيل ونفترض أن أيا منا يجلس الان مكان رجل سوري مع عائلته في منزلهم في حلب، او ريف دمشق او ادلب او دير الزور او درعا …. بعد ربع ساعة سيسقط فوقهم برميل من طائرة تابعة للجيش العربي السوري، فجأة ترى في السماء طائرة إسرائيلية ذاهبة لضرب الطائرة السورية! هل تتمنى أن يسقط البرميل عليك وعلى عائلتك؟ أم تتمنى لو أن الطائرة الإسرائيلية تصيب الطائرة السورية؟ ربما قال البعض – وهو احتمال ضعيف جدا لكنه وارد – “فلأقتل انا وعائلتي ببرميل أسدي أفضل من أن تسقط طائرة سورية اسدية بنيران اسرائيلية”! لكن على الاغلب سيكون رد فعلك رد فعل طبيعيا، ستشتغل رغبتك الطبيعية بالحياة، ستقول “يارب انقذنا “وتتمنى من أعماق وجدانك وعقلك وقلبك أن تتمكن الطائرة الإسرائيلية من إسقاط الطائرة الاسدية. هذا شيء طبيعي، لكن لأنه لم يمر على شعب ما مر على السوريين من طائرات وطنية تقصف شعبها سنكون أمام موقف صعب غير مسبوق في التاريخ.
يفترض أن السؤال هنا يتعلق بالموقف من الحياة. وليس بالموقف أو الخيار السياسي من النظام أو إسرائيل. هل نريد النجاة أم الموت، هل يرسل لك الله طائرات جيش بلدك وجيوش أخرى لتقصفك انت وعائلتك أم يرسل طيران معادي ينقذك، هل لدى الله حسابات سياسية أم وطنية أم عقائدية؟ هل يرسل الله لك طائرة معادية لتنقذك ثم يلومك زمامير القومجيين في الموالاة والمعارضة ويمسحوا بك الأرض لأنك عميل وخائن ترفض الموت بنيران الاسد – الوطن وتفضل النجاة بنيران العدو.
كما هو واضح، نحن في موقف صعب جداً لأنه موقف غير مختبر سابقاً، والمواقف الجديدة المصيرية لا خيار فيها ولا احتمال ايجابي لأي شيء إيديولوجي أو دعائي أو قومجي، فأنت أمام الموت أو الحياة، الله العقل العاطفة الحياة تقول أنه عليك أن تختار النجاة، إذا كنت تملك عقلا أو تفكيرا منطقيا.
هذه المعادلة الوجودية على قساواتها وجدتها، هي بهذه البساطة المحيرة للعقل، لهذا نعيش صراعا بين “عقيدتنا الوطنية” قبل الثورة وبين العقيدة الأصلية الأولى: البقاء. وبالتأكيد فلا شيء يقف أمام نزعة البقاء، حتى لو كان “عقيدة وطنية” باستثناء إرادة الانتحار او التضحية لأسباب عقائدية، فهذه لها ارتباط بنزعة مضادة لنزعة البقاء، هي نزعة الموت أو نفي الذات، أو حتى نزعة التضحية لأجل الآخرين، لكن المشكلة أن هذه النزعة الأخيرة يتم استغلالها من قوى سياسية أو دينية لتذهب في اتجاه يخدم هذه القوى ولا يخدم المجتمع أو الإنسان بالعموم.
والى هذا التضاد بين الاستغلال والتضليل وبين المنطق ونزعة الحياة يعود مجمل الصراع الفكري والسياسي في الأزمة والحرب السورية وأخواتها اللبنانية والعراقية. …