إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
المراجعة العميقة لتجربتنا منذ توقيع ” اتفاق اوسلو ” ليست مطلوبة من خصومه. بل ممن حمل مسؤولية واعباء الخيار السلمي . هذا ما تفرضه الضرورة لاعادة تقييم دور الاتفاق في خدمة نظام المصلحة الفلسطينية الشاملة. وما اذا كان خطوة للامام في سياق ومسار التطور التاريخي للمجتمع الفلسطيني وبنيته وهياكله السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.
سيما وان حاجتنا الان تشتد لنقاش حر ومفتوح. ونحن نشهد كيف يهدر الدم بلا حساب منذ انطلاق عملية “طوفان الاقصى “.
وكيف تتعاظم مخاطر التهجير والتدمير والابادة الجماعية. ليس في قطاع غزة فقط، بل في الضفة الغربية ايضا. علمًا ان هذا الاتفاق ما زال يشكل الاساس القانوني لحركتنا السياسية الدولية والداخلية ،فضلا عن العلاقة مع دولة الاحتلال.
وفي مراجعة لا تخلوا من عجالة يمكن القول بأن وضوح الحق الفلسطيني لم ينتج حلًا عادلًا لقضيتنا حتى الان ذلك ليس لأن الشعب الفلسطيني لم يَسعَ إلى حلّ قائم على تسوية تاريخية، بل لعدم توفر شروط التسوية معظم الوقت، ولترابط قضايا الصراع بأبعادها الثلاثة (الفلسطينية – العربية – اليهودية)، على نحو يزيد في تعقيدها، وكذلك لاندماج تلك القضايا في المعادلة الدولية، بما يكتنفها من تحولات مستمرّة تعيد صياغة قوانين الصراع العالمي كما تعيد تشكيل مكوّناته الكبرى، الأمر الذي ينتج مواثيق وقرارات وأعرافاً تشكّل بالجملة ما يدعى الشرعية الدولية التي لا فكاك منها…
وإذ اتسم المشروع الصهيوني الحاضن لدولة إسرائيل بالهجومية المفرطة عبر المراحل المختلفة، كما اتسم باستحضار الدين كأيديولوجيا للصراع، إضافة لامتلاكه وسائل القوة المادية، ودعم الشرعية الدولية، فإنّ المشروع العربي المضاد – حين وجد – ظل ناقصاً على الدوام، ليس فقط لأنه لم يمتلك البنية القادرة على المواجهة والانتصار، بل أيضاً وخصوصاً لأنه أهمل مركزية الشعب الفلسطيني في المواجهة، رغم إقراره بمركزية القضية الفلسطينية. إن هذا الإهمال الذي بلغ أحياناً حدَّ التغييب، سواء أكان متعمَّداً أو ناجماً عن ارتجالية الفكر السياسي، أدى عملياً إلى حرمان القضية الفلسطينية من أهم مميزاتها باعتبارها قضية تحرر وطني وأدخلها في استراتيجيات “النضال القومي العربي” التي قادتها أنظمة قطرية أو أحزاب قومية سرعان ما استُتبعت للأنظمة بشكل أو بآخر. وإذا علمنا أن المشكلة الفلسطينية نشأت في بدايات القرن العشرين وتفاقمت في حقبة زمنية عُرفت على صعيد العالم باسم مرحلة “نضال الشعوب من أجل التحرر الوطني”. يتَّضح لدينا ما كان لذلك الإهمال/ التغييب من أثر كارثي على القضية الفلسطينية.
من هنا نعتقد أن المواجهة الفعلية للمشروع الصهيوني بعد النكبة، إنما بدأت مع الحركة الوطنية الفلسطينية، المعبّرة عن نفسها في إطار منظمة التحرير عبر مسيرتها الطويلة، ولا سيما منذ العام 1968 حين أعطت المنظمة قيادها إلى حركة سياسية فلسطينية عرَّفت نفسها بأنها حركة تحرر وطني، ووضعت في مقدّم مبادئها ومنطلقاتها مركزية الشعب الفلسطيني وإستقلالية شخصيته الوطنية وقراره الوطني.
إن وعي الفلسطيني لذاته،وبذله التضحيات في سبيل إعادة بناء هويته الوطنية، وإنجاز مركزيته السياسية، وصياغة أهدافه، لم يكن كافياً في ظل التحولات الدولية الكبرى لجعل حقه ممكناً من دون تصحيح مسار النضال الوطني بحيث ينتقل مركز هذا النضال إلى داخل الوطن. وهذا ما قدمت له مقررات المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الثانية عشرة عام 1974 (برنامج النقاط العشر)، ومهدت له الانتفاضة الشعبية الكبرى (1987-1993)، وسمّاه إعلان الاستقلال عام (1988)، وجسده الدخول الفلسطيني الكبير اعتباراً من العام (1994) بموجب اتفاقية أوسلو.التي يمكن الاختلاف على كثير من بنود تلك الاتفاقية، ولكن لا يمكن الاختلاف على أنها شكلت جسر العبور إلى جغرافيا الوطن، لإدارة الصراع من موقع مستقل، حيث نشهد الآن ذروة الاشتباك التاريخي بين المشروعين، الفلسطيني والصهيوني.
ولئن شكلت الانتفاضة الأولى (1987-1993) فعلاً شعبياً فلسطينياً على درجة عالية من القوة والانسجام، استطاع تجاوز ميزان القوى المادي، وفرَضَ تغييراً في قواعد الصراع الثنائي، إلا أنه لم يكن ممكناً اندراجها في “مشروع تحريري عالم ثالثي” على النمط السابق، بل في “مشروع استقلالي” يأخذ في الاعتبار طبيعة النظام العالمي الجديد الذي نشأ بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وبعد أن أضحت الحركة الفلسطينية آخر حركات التحرر الوطني في العالم. وهذا ما عبّر عنه المنطق الداخلي لاتفاقية أوسلو، المنسلخ عن استراتيجيات الحرب الباردة في عالم القطبين السابق، والمفتوح على آليات جديدة يمكن أن تكون سلاحاً فعالاً في يد الحركة الوطنية الفلسطينية إذا ما أحسنت استخدامها.
بيد أن هذا المنطق الداخلي لم يكن على درجة كافية من الوضوح والصراحة بل جلَّله شيء من الغموض القابل لأن يكون “بنّاءً” إذا ما حَسنُت النوايا على جانبي الاتفاق، “وهداماً” إذا ما قرر أي طرف التنصل من التزاماته. وبهذا الانعطاف السياسي، الذي استعصى فهم منطقة الداخلي على الكثير من النخب والعامة، بدأت مفاعيل الاتفاق تظهر على شاكلة حركة بناء جديدة للمجتمع الفلسطيني وحركته الوطنية، وفي القلب منها مؤسسة السلطة الفلسطينية، بما هي انعكاس وتحقق للطاقة الحيوية الفلسطينية الساعية لإنجاز الاستقلال، بينما شهد المجتمع الإسرائيلي منذ عام 1993 حتى عام 1999 ارتفاع نسبة التوتر السياسي والاجتماعي ارتفاعاً إطرادياً مع كل تقدم على الجانب الفلسطيني، حتى بلغ التوتر حداً منذراً بصراعات عنيفة داخل المجتمع الإسرائيلي. وفي هذا السياق تم اغتيال رئيس الوزراء إسحاق رابين 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 1995، الأمر الذي أطلق تداعيات أعادت تشكيل الخريطة السياسية الإسرائيلية، وأعادت صياغة البرنامج السياسي لكتلة الوسط أو “المركز” وفق المصطلح الإسرائيلي.
لذا فإن اتفاق أوسلو شكل علامة فارقة في مسار الصراع، حيث شهد الحق الفلسطيني ولادته الثانية – هذه المرة على أرضه – في إطار رؤية واقعية (تسوية تاريخية تستند بنسبة كبيرة إلى قوة الشرعية الدولية رغم عدم الإقرار الإسرائيلي كلياً بذلك)، ليصبح هذا الحق غير قابل للطعن بعد أن تقونن في مجلس الأمن الدولي بصيغة القرار 1515 الداعي لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة.
بيد أن حركة الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي خرجت عن آليات الضبط المتّفق عليها بين الطرفين مع نهاية السنوات الخمس الانتقالية. حدث ذلك بفعل التقاء سلبيتين مؤسستين على منطق “الغموض” الذي جلّل الاتفاق.
ظهرت السلبية الأولى في عجز المجتمع الإسرائيلي ومؤسسته العسكرية عن الاستجابة للاستحقاقات الكبرى (قضايا الحل الدائم). أما السلبية الثانية فتمثلت في تصاعد الاعتراض الفلسطيني المسلح على مسار التسوية، من قبل الاتجاهات الإسلامية وبعض القوى الوطنية. هذا فيما انكفأت الحركة الشعبية الفلسطينية (1994-2000) عن دورها المميز الذي لعبته أثناء الانتفاضة الأولى.
على هاتين السلبيتين، تأسس موقف إسرائيلي أميركي مشترك، استخدم الخلل في نسبة القوى وعمل على توظيفه لفرض تسوية من طرف واحد في قمة كامب ديفيد 2000، حيث ارتسم المأزق والانسداد الكبيرين. ولم يكن في استطاعة القيادة الفلسطينية مواجهة هذا المأزق سوى بالصمود السياسي والتمسك بالثوابت الوطنية، خصوصاً في ما يتعلق بالقدس وقضايا الحل النهائي. ففيما اعتبر الجانب الفلسطيني إن هذه القضايا تمثل الحد الأدنى الذي لا يمكن لأي قيادة فلسطينية التراجع عنه، اعتبرها الجانب الإسرائيلي خاضعة للمساومة، معوِّلاً على ميزان القوى.
مما تقدم يُمكننا القول إن التسوية ستبقى محكومة بالفشل، طالما ظلت رهينة منطق ميزان القوى. لأن السلام رؤية إيجابية مشتركة يتم بموجبها إنتاج أنماط جديدة من العلاقات والمفاهيم القادرة على المراكمة في اتجاه المصالحة التاريخية المفترضة والمطلوبة.
أما اليوم ونحن نواجه التحدي الاكبر لانقاذ ألشعب من محنته فإن البناء السياسي للمخرج الصعب، لن يغادر القوانين التي تسير بموجبها سياساتنا ، الداخلية والخارجية بموجب اتفاق اوسلو على الرغم من لعنات المعارضين له.واستياء المؤيدين.
ان الحقيقة الموضوعية لا تلتزم رغباتنا ، وعلى معارضي الاتفاق الرفق ثم الرفق بالناس وتوخي مصالحها قبل جلدها بالشعارات التي لا تقدم قطرة ماء.
فلسطين وخيار التسوية التاريخية (١): البرنامج الوطني ومسألة الوحدة الوطنية