يتمثّل أحد ألغاز الهجوم المستمر في الموصل، حيث تتقدّم قوات الأمن العراقية الآن في أطراف المدينة من الشمال والشرق والجنوب، بالقرار الجلي بإبقاء الصحراء بين ساحة المعركة وسوريا دون أي رقابة. وما لم يكن هذا الأمر إهمالاً مربكاً ومحيراً، لبدا أن الهدف وراء هذا الممر الصحراوي البالغ عرضه 20 ميلاً هو منح مقاتلي تنظيم «الدولة الإسلامية» طريقاً للهروب إلى معاقل التنظيم في سوريا، وربما يعود السبب إلى الحدّ من الدمار في الموصل.
مايكل نايتس و ماثيو شفايتزر
لكن كل هذا تغيّر حين أقدمت الميليشيات الشيعية التي تقاتل تحت مظلة «قوات الحشد الشعبي» على فتح جبهة جديدة في الصحراء لسدّ هذه الثغرة. فقد سبق أن وصلت بالفعل إلى مشارف تلعفر، وهي مدينة ذات أغلبية تركمانية تقع على بعد 35 ميلاً غرب الموصل.
يُذكر أنه تمّ إقصاء وحدات «قوات الحشد الشعبي» الشيعية صراحةً من عملية تحرير الموصل نفسها، في محاولة لطمأنة سكان المدينة ذات الأغلبية السنّية. لكن المهمة الجانبية للميليشيات الشيعية في تلعفر لا يجب أن تشكّل مفاجأة كبيرة. فالمدينة مرتبطة بشكل وثيق ببروز تنظيم «الدولة الإسلامية» وسلفه تنظيم «القاعدة في العراق»، وأصبحت تشتهر بكونها مرتع الإرهابيين السنّة. وفي عام 2014، تمّ طرد سكانها الشيعة خلال استيلاء تنظيم «الدولة الإسلامية» على شمالي العراق.
والآن، يريد المقاتلون الشيعة استعادة تلعفر – ويشكّ البعض في أنهم يريدون الانتقام. ففي نيسان/أبريل، بدأ زعيم «منظمة بدر» التي تدعمها إيران هادي العامري يحدّد مطالب الحركة المتمثّلة بتطبيق العدالة في المدينة. وفي ذلك الوقت، أخْبَر أحدنا أن “«قوات الحشد الشعبي» وحدها يمكنها الذهاب إلى تلعفر”.
تاريخ تلعفر المظلم
منذ عام 2003، لعبت تلعفر دوراً كبيراً في سياسة العراق العنيفة. فالمدينة التي لا تتخطى مساحتها ستة أميال مربعة، أصبحت قلعة يناهز طولها 100 قدم. وقبل عام 2003، تألف معظم سكانها الذي ناهز عددهم 200 ألف نسمة من العرق التركماني حيث مثّل السنّة نحو ثلاثة أرباع السكان والشيعة الربع الآخر. وفي ثمانينيات القرن الماضي، كافأ صدام حسين الضباط التركمان المخلصين بمنحهم عقاراتٍ في المناطق الشمالية الجديدة في المدينة، من بينها سعد وبوري والقادسية.
وبعد سقوط صدام، تركت هذه السياسات إرثاً من الانقسام بين سكان تلعفر الشمالية، معظمهم من السنّة والمنتمين سابقاً إلى “حزب البعث”، من جهة والمناطق الجنوبية للمدينة، الأقلّ تطوراً والأكثر فقراً وذات الأغلبية الشيعية، من جهة أخرى. واستخدمت الميليشيات الشيعية مثل «منظمة بدر» سلطاتها الحديثة التي اكتسبتها بعد عام 2003 من أجل السيطرة على الشرطة والحكومة المحلية في تلعفر، واضعةً المدينة ذات الأغلبية السنّية تحت سيطرة الأقلية الشيعية ودافعةً بالسكان المحليين إلى أحضان الجماعات الإرهابية السنّية. وبالتالي، أصبحت المنطقة مصدراً نافذاً للتجنيد لتنظيم «القاعدة في العراق» وكذلك ملاذاً آمناً للإرهابيين على بُعد ساعة واحدة فقط بالسيارة خارج الموصل.
وحتى مع سقوط الموصل في يد تنظيم «الدولة الإسلامية» في حزيران/يونيو 2014، كان يُكتب فصل جديد من النزاع الطائفي في تلعفر. فقد تمرّدت الأحياء السنّية في سعد والقادسية على الجيش العراقي، وبعد أيام من الاستحواذ على المدينة في 16 حزيران/يونيو، دمّر مقاتلو تنظيم «الدولة الإسلامية» سبعة مساجد شيعية وأعدموا 40 رجلاً. وفي قريتيْ جوبا وشريخان التركمانيتيْن القريبتيْن، أمر التنظيم 950 عائلة بالمغادرة، وسلبوا المنازل الشيعية، وأحرقوا الأراضي الزراعية كما فجروا ثلاثة دور عبادة شيعية. وأشار السكان المشردون إلى أن شباناً ورجالاً محليين يرتدون أقنعة سوداء ساعدوا “الدولة الإسلامية” على تحديد العائلات والممتلكات الشيعية. وبحلول 20 حزيران/يونيو، تم قتل أو فرار جميع سكان تلعفر الشيعة تقريباً بعد عمليات تفتيش من منزل إلى منزل بحثاً عن السكان الشيعة.
عودة سكان تلعفر الشيعة
كان خروج الشيعة من تلعفر قد حوّل تحرير المدينة إلى معركة شخصية إلى حدّ كبير بالنسبة لآلاف العراقيين. وخلال حزيران/يونيو 2014، هرب معظم سكان تلعفر الشيعة غرباً إلى سنجار القريبة، التي كانت خاضعة حينها لسيطرة قوات “البيشمركة” الكردية – ليتمّ نزوحهم من جديد حين اجتاح تنظيم «الدولة الإسلامية» الخطوط الأمامية الكردية في سنجار في أوائل آب/أغسطس 2014. وفي ذلك الوقت، كان إما قد تمّ تهريب التركمان الشيعة من «إقليم كردستان» إلى بغداد أو نقلهم جنوباً، لإيجاد ملجأ في مخيمات قريبة من مدينتي كربلاء والنجف المقدستين في جنوب العراق. وبحلول أواخر عام 2015، وجدت أكثر من 1250 عائلة تركمانية (حوالي 7500 شخص) ملجأ لها في مقام الإمام علي نفسه في النجف.
وقد عاد عددٌ كبير من الرجال الشيعة الذين طُردوا من تلعفر للمشاركة في معركة التحرير. وقد انضمّ نحو 12 ألف تركماني من جميع أنحاء شمال العراق إلى «قوات الحشد الشعبي» منذ عام 2014، حيث التحق الكثيرون بالميليشيات التي تتلقى التمويل والأسلحة من طهران، مثل «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله». وانضمّت مجموعة كبيرة من تركمان تلعفر الشيعة إلى اللواء 92 التابع للجيش العراقي، الذي تم تجنيد قواته مباشرة من سكان تلعفر السابقين الذين يعيشون في مخيمات اللاجئين في الجنوب. وبالنسبة إلى مهجري تلعفر، و«منظمة بدر» و«قوات الحشد الشعبي» الأوسع نطاقاً اللذين غالباً ما يشكل المهجرون جزءاً منهما، هناك رغبة حادّة في محو وجود تنظيم «الدولة الإسلامية» في المدينة – وفي بعض الأحيان رغبة جامحة تماماً. وفي تشرين الأول/أكتوبر 2014، عالجت الميليشيات الشيعية في بلدة جرف الصخر، جنوب بغداد، المشكلة المستمرة لتنظيم «الدولة الإسلامية» عبر إخلاء المنطقة تماماً من السكان.
وبغض النظر عن محفزاتهم أو نواياهم، فإن هؤلاء هم الأشخاص الذين قد يكونوا قريباً في وضع يخوّلهم تقرير مصير تلعفر. وفي 24 تشرين الأول/أكتوبر، أعلن المتحدث باسم «عصائب أهل الحق» جواد الطليباوي نيّة «قوات الحشد الشعبي» تحرير تلعفر. وقد بدأت العملية في 29 تشرين الأول/أكتوبر، وخلال الأسبوع الأول، وصلت الوحدات الشيعية إلى قاعدة تلعفر الجوية، على بُعد ستة أميال فقط من المدينة.
ويكتسي المسار المحدد الذي سلكته «قوات الحشد الشعبي» أهمية كبرى، إذ إنه موجّه مباشرة نحو حزام القرى الصحراوية السيئة السمعة التي وفّرت لتنظيم «القاعدة في العراق» ومن ثم لتنظيم «الدولة الإسلامية» بيوت آمنة للانتحاريين ومخزناً للأسلحة منذ عام 2003. وقد سبق أن استولت «قوات الحشد الشعبي» على عدة بلدات صحراوية اشتهرت بتسهيل دخول الانتحاريين من سوريا إلى الموصل. ويقاتل التحالف الشيعي الآن للسيطرة على عدد كبير من القرى، الأمر الذي سيبثّ الذعر في نفوس أي من الجنود الأمريكيين الذين خدموا في محافظة نينوى خلال السنوات الماضية – ومن بين هذه القرى تل زلط، السحاجي، المحلبية وتل عبطة، علماً أن هذه الأخيرة شملت عملية إطلاق النار الجماعي والمقبرة الجماعية للضحايا التي نفذها تنظيم «الدولة الإسلامية» في وادي الخفسة.
مصير تلعفر
لا يرضي الهجوم التي شنته «قوات الحشد الشعبي» نحو تلعفر حكومة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي أو الأكراد العراقيين أو حتى التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أنهم جميعاً منهكون لدرجة تجعلهم يعجزون عن التصرف في هذا الخصوص، إلا أنهم يخشون من أن يؤدي وجود «قوات الحشد الشعبي» الشيعية وتحركاتها قرب الموصل إلى إعاقة خططهم لتهدئة المدينة بعد تحريرها.
وفي 30 تشرين الأول/أكتوبر، حاول زعيم «منظمة بدر» هادي العامري، تبديد هذه المخاوف من خلال الإعلان أنه لن تتمّ مهاجمة مدينة تلعفر فوراً. وعوضاً عن ذلك، وصف العملية العسكرية هناك بأنها تمرين لإنهاء الحصار على الموصل من الغرب.
ووفقاً لأحاديثنا مع سكان الموصل خلال العقد الماضي، لا يُظهر هؤلاء مودة أو تعاطفاً خاصاً تجاه عموم السنّة في تلعفر. ففي الواقع، شهدت الموصل عمليات نهب وسلب كثيرة نفذها إرهابيون مقرهم في تلعفر. ومع ذلك، فإن مخاوف كبيرة ستعتري سكان الموصل إذا قررت «قوات الحشد الشعبي» الانتقام من تلعفر المجاورة وطرد سكانها السنة.
كما أن التوترات بين تركيا و«قوات الحشد الشعبي» توشك على أن تصبح صراعاً مفتوحاً في تلعفر. فأنقرة لم تحرك ساكناً لمساعدة التركمان في تلعفر عندما نزحوا في عام 2014، لكن الرئيس رجب طيب أردوغان اكتشف في وقت متأخّر اهتماماً ملحّاً بالمنطقة في الوقت الذي بدأت فيه الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران بالتقدم نحو المدينة. ووسط خطاب يقلّل من أهمية التدخل العسكري التركي في العراق، قال أردوغان: “إذا أرهَبت «قوات الحشد الشعبي» تلعفر، سيكون ردّنا مختلفاً”.
وربما تكون تركيا ببساطة بصدد حماية منطقة استراتيجية في منطقة الحدود الثلاثية التي تربط تركيا وسوريا و«كردستان العراق»، أو أنها تخفي مخاوف أوسع بشأن ممر خاضع لسيطرة شيعية بين إيران وسوريا. وبغض النظر عما هي الحال، أعلن أردوغان في 29 تشرين الأول/أكتوبر أنه سيعزّز الوجود العسكري التركي في بلدة سيلوبي التركية على مقربة من المنطقة الثلاثية الحدود، تحسباً للتطورات المستقبلية.
وستكون الآن أفعال «قوات الحشد الشعبي» أبلغ من الأقوال. فقادتها على غرار العامري يتمتعون بالكثير من الحوافز للحفاظ على الانضباط العسكري للجماعة، والتعامل باحترام مع المعتقلين والمدنيين، وتقليل الدمار والتشريد. وإذا أمل العامري تحقيق طموحات سياسية رئيسية، بما في ذلك خلال الانتخابات الوطنية العراقية المقرر إجراؤها في عام 2018، سيكون من المهم أن يُثبِت مهاراته السياسية وليس العسكرية فقط.
ويتمثّل أحد المؤشرات المشجعة في بدء «قوات الحشد الشعبي» والعناصر التركمانية الشيعية الأكثر اعتدالاً بالتوجه الآن نحو تلعفر لتحقيق التوازن مع الميليشيات الطائفية المنعدمة الضمير على غرار «عصائب أهل الحق». وقد انضمّ إلى العملية نحو 3000 مقاتل من «قوات الحشد الشعبي» الموالين لآية الله العظمى علي السيستاني الذين يتقاضون أجورهم من المراقد الدينية ويخضعون للقيادة التنفيذية لوزارة الدفاع في العراق، كما أن اللواء 92 من الجيش العراقي يستعدّ للانضمام إلى المعركة.
ومن شأن ذلك أن يعيد العملية مرة أخرى تحت توجيه وتحكّم النظام السياسي والعسكري الوطني العراقي. ولكن إذا تبلور السيناريو المعاكس، مع تعرّض سكان تلعفر السنّة لعمليات قتل واسعة النطاق خارج نطاق القانون ولنزوح جماعي، ستلحق «قوات الحشد الشعبي» الضرر بمستقبلها السياسي بالتزامن مع تعقيدها هجوم الموصل وتُخاطر بإثارة رد فعل عنيف من حكومة أردوغان المتقلبة على نحو متزايد. وفي وقت تحتشد فيه قوات أنقرة على الحدود، قد تكون المسألة الشائكة المرتبطة بتلعفر – وليس الموصل – في نهاية المطاف هي التي ستقرر ما إذا كانت هذه الجهود لطرد تنظيم «الدولة الإسلامية» من نينوى ستتكلّل بالنجاح أو تزرع ببساطة بذور صراع فوري بين الفصائل التي تقود عملية التحرير.
مايكل نايتس هو زميل “ليفر” في معهد واشنطن، وكان قد عمل في جميع محافظات العراق وأمضى بعض الوقت ملحقاً مع قوات الأمن في البلاد. ماثيو شفايتزر هو باحث في “مركز التعليم من أجل السلام في العراق”.