انتهت اللحظة الاستثنائية للقوة الأميركية مع مغالاة واشنطن في الإدارة الأحادية للعالم بعد نهاية الحرب الباردة، والتي تلتها عودة روسيا وصعود الصين والأزمة النقدية العالمية منذ 2008 وما تبعها من انتقال مركز الثقل الاقتصادي نحو جنوب الكرة الأرضية.
يحتدم السباق الرئاسي الأميركي في شوطه الأخير بين هيلاري كلينتون ودوناد ترامب، ويستمر مسلسل الفضائح والغرائب في حملة انتخابية فريدة حافلة بالمفاجآت والتقلبات. لم يعد “العالم الجديد” النموذج الديمقراطي الذي تصوره توماس جفرسون.
وأياً كان الفائز، فإن الولايات المتحدة الأميركية تغيرت بعمق مع سقوط الكثير من المحرمات واهتزاز في تركيبتها الاجتماعية والسياسية، والطلاق بين شريحة واسعة من الرأي العام مع “الإيستابليشمانت” (النظام أي المؤسسة).
يحبس العالم أنفاسه إزاء هذا الحدث وتتماته، ليس لانعكاساته الداخلية والاقتصادية فحسب، بل لأن ما يجري في واشنطن ينعكس على مسار الأحداث والتوازنات الكونية، خاصة خلال هذه الحقبة من الاضطراب الاستراتيجي.
لا تفاجئنا هذه “الأميركا” في تمثيل رجل الأعمال دونالد ترامب دور المدافع عن المهمش والأميركي الأبيض في آن معا، أو في حجم تمويل حملة هيلاري كلينتون وأثر سلطان المال واللوبيات المختلفة، لكنها تبهرنا وتصعقنا أحيانا بكل ما هو جديد وما يتعدّى كل الحدود مع خطط استعمار المريخ أو وضع الحامض النووي قيد التداول وغيرهما من صرعات جنون العظمة والتفوق عند طبقة من كبار أغنياء التكنولوجيا الذين ينشطون لتغيير المستقبل مع الإنسان الآلي (الروبوتات) والطائرات من دون طيار والمدن الجديدة النموذجية والطاقة القابلة للتجديد.
بيد أن الواقع الأميركي لا يبدو ورديا، إذ أن أميركا المرئية عن بعد بحكم الدعاية الإعلامية الجبارة وهوليوود هي الأكثر تقدما وتطورا وإبداعا، ويصحّ ذلك من ناحية السبق العلمي والتكنولوجي وعدد براءات الاختراع، لكن الوجه الآخر يتمثل في العنف والجشع وشهوة السيطرة وسهولة القتل (من خلال ترخيص حمل السلاح)، وتملّك نسبة كبيرة من ثروات الولايات المتحدة واقتصادها العملاق من قبل أقلية أوليغارشية إلى جانب كارتلات الصناعات الحربية والبترولية وغيرها.
ويكمن الأدهى في ازدياد الفوارق الاجتماعية وانعدام المساواة. لم يتحرك في العشرين السنة الماضية المتوسط العام للأجور، بينما تضاعفت المداخيل التي يحتكرها 1 بالمئة من كبار الأغنياء، وترافق ذلك مع تداعيات الأزمة النقدية عام 2008 وآثار العولمة السلبية على أوضاع العمال والعاطلين عن العمل وغموض الأفق عند شباب لم يجدوا ضالتهم إلا في الديمقراطي برني ساندرز ووصفاته الاشتراكية، بينما يهرب الكثير من ضحايا الانقلابات الاجتماعية والرأسمالية نحو الخطاب العنصري الديماغوجي الذي يمثله ترامب.
بالرغم من المحظورات في صميم “الإيستابليشمانت”، يطغى على السطح خلل ثقافي في أغنى وأقوى دول العالم، لأن شعبية ترامب وحصوله في مطلق الأحوال على أكثر من أربعين بالمائة من أصوات الأميركيين له صلة بانهيارات منظومة القيم وتداعيات الليبرالية الجامحة، لكنه يؤشر إلى تحولات في الحياة الحزبية الأميركية.
للمرة الأولى منذ عقود، تنعكس المعايير والتقاليد، إذ يشير معهد إيبسوس لاستطلاعات الرأي، أن الناخبين الميسورين والأغنياء سيصوتون لهيلاري كلينتون وهم يصوتون في العادة للحزب الجمهوري، بينما يستمرّ تحول قسم هام من الطبقة العاملة (خاصة من البيض) نحو التصويت لترامب.
هكذا لم يعد الحزب الجمهوري حزب الأغنياء وحزب المؤسسة “الإيستابليشمانت” والحفاظ على الواقع القائم، بل أصبح بعد انتزاع ترامب لترشيحه حزب الفقراء والخائفين والمتمردين على المؤسسة أو العنصريين الرافضين للتنوع.
لكن تجدر الإشارة إلى أن ترامب يمثل نوعا من الاستمرارية في الحزب الجمهوري، لجهة رفض الهجرة والمطالبة بالدولة القوية أو بالعودة إلى نزعة الانعزال عن العالم.
لا تشمل نهاية الاستثناء الأميركي الداخل، بل سينعكس الأمر على صورة أميركا وحراكها العالمي.
منذ عقدين قالت مادلين أولبرايت إن “الولايات المتحدة الأميركية قوة لا غنى عنها في العالم”.
ووصل التبشير مع المحافظين الجدد لتسويق الأحادية الأميركية، مع التركيز على استثنائية المشروع الإمبراطوري الأميركي، ففي أواخر القرن العشرين بدت واشنطن وكأنها روما وأثينا وإسبارطة ومقدونيا في آن معا.
وبالطبع فإن النجاحات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والعلمية والثقافية كانت تؤكد استثنائية القوة الأميركية في العصر الحديث.
انتهت اللحظة الاستثنائية للقوة الأميركية مع مغالاة واشنطن في الإدارة الأحادية للعالم بعد نهاية الحرب الباردة، والتي تلتها عودة روسيا وصعود الصين والأزمة النقدية العالمية منذ 2008 وما تبعها من انتقال مركز الثقل الاقتصادي نحو جنوب الكرة الأرضية.
حتى إشعار آخر لن تُسلم أميركا بفقدان دورها القيادي مع تعمق نزعة التعالي وصعوبة إصلاح السياسات الأميركية.
يصرّ البعض داخل المؤسسة الأميركية على التسويق لمشروع إمبراطوري يهدف إلى تثبيت التفوق الأميركي، وتحويله إلى سلطة عالمية تفرض سطوتها على القرن الحادي والعشرين (على الأقل).
بالطبع، تحافظ واشنطن على الكثير من عناصر قوتها عسكريا وسياسيا واقتصاديا وعلميا وثقافيا، بيد أن تشكيل العالم وفق التصور الأميركي أو الرغبة الأميركية ليس ممكنا في ظل التحولات المتسارعة وخلط الأوراق في اللحظة الراهنة من العلاقات الدولية.
ومن جديد ستكون العلاقة مع الصين في قلب اهتمامات الإدارة الأميركية الجديدة، بالإضافة إلى عودة التجاذب مع موسكو. ومما لا شك فيه أن التحولات الداخلية المتسارعة ستمتد انعكاساتها ونتائجها إلى الساحة العالمية.
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس