سيكون للبنان رئيس للجمهورية ابتداء من الواحد والثلاثين من تشرين الاوّل ـ أكتوبر. هذا يفرض التفكير في مرحلة ما بعد وصول ميشال عون الى قصر بعبدا مع عدم تجاهل ما رافق ذلك من احداث في الفترة الممتدة من الخامس والعشرين من أيار ـ مايو 2014، عندما انتهت ولاية الرئيس ميشال سليمان الى يومنا هذا.
لعلّ الدرس الاوّل الذي يمكن للبنانيين تعلّمه من فترة الفراغ الرئاسي انّ بلدهم صار فيه “مرشد” على غرار ذلك “المرشد” الموجود في ايران الذي يمتلك سلطة خاصة به تعلو على كلّ السلطات الأخرى. هذا “المرشد” في لبنان الذي يؤمن بولاية الفقيه، قرّر ان لا رئيس للجمهورية آخر غير ميشال عون. في النهاية، رضخ الجميع له. لم يتأمّن النصاب لجلسة انتخاب رئيس الجمهورية الّا بعدما تقبل الجميع ارادة “المرشد”، علما ان من المشروع طرح سؤال في غاية الاهمّية: هل كان “المرشد” يريد بالفعل رئيسا للجمهورية… ام كان هدفه الفراغ الرئاسي؟
جاءت موافقة زعيم “تيّار المستقبل” سعد الحريري على تبني ترشيح ميشال عون لتضع حدّا للفراغ الرئاسي الذي كان سيقود حتما الى نسف اتفاق الطائف والوصول الى “المؤتمر التأسيسي” في وقت تمرّ المنطقة كلّها في حال مخاض. يحصل ذلك في ظلّ إدارة أميركية قررت اتخاذ موقف المتفرّج من جهة وفي ظلّ استغلال إيراني الى ابعد حدود للغرائز المذهبية التي تستثمر فيها طهران منذ ما يزيد على ثلاثة عقود من جهة أخرى.
كان لبنان يستحقّ رئيسا للجمهورية افضل بكثير من ميشال عون. ولكن ما العمل عندما يقبل قسم من مسيحيي البلد الدخول في لعبة “حزب الله” القاضية بالامتناع عن النزول الى المجلس النيابي لانتخاب رئيس للجمهورية بشكل طبيعي. هناك شخصيات كثيرة تستطيع شغل منصب رئيس الجمهورية بجدارة ولعب الدور المطلوب على الصعيد الوطني، أي ان يكون رئيس الجمهورية على مسافة واحدة من جميع اللبنانيين.
الاهمّ من ذلك كلّه، ان يكون رئيس الجمهورية حاميا للدستور وحاجزا في وجه أي عقل انقلابي ومثلا اعلى يُقتدى به في النزاهة والشفافية ومؤمنا بالانماء والاعمار والتطور والدور الذي يستطيع لبنان لعبه في هذا المجال على الصعيد الاقليمي.
لم يكن هناك افضل من النائب هنري بيار حلو يستطيع تأدية هذا الدور. وهذا ليس عائدا الى انّه كان مرشّح الزعيم الدرزي وليد جنبلاط فحسب، بل لانّه يعرف ايضا ما هو لبنان وكيف تكون الدول الحديثة، إضافة بالطبع الى انّه ليس في بحث عن الثروة وانّه على تماس قديم وحقيقي مع ما يدور في المنطقة والعالم وكلّ ما هو حضاري فيهما…
يحتاج لبنان الى رئيس لا يخجل من ماضيه، الى رئيس يسمع، الى رئيس لم يغيّر ثيابه في كلّ موسم من المواسم من اجل الوصول الى قصر بعبدا. رحم الله ريمون اده الذي انهى حياته في المنفى لانّه رفض التخلي عن مبادئه رافضا أي سلاح غير شرعي من أي نوع كان على أي جزء من الأرض اللبنانية.
الآن، وقد حصل ما حصل، أي صار ميشال عون في قصر بعبدا، هل يدرك الرجل ما هي صلاحيات رئيس الجمهورية بموجب الدستور؟ هل يدرك ما هو الدور المطلوب من رئيس الجمهورية لعبه؟
لا شكّ ان الدور الأكبر والاهمّ في قصر بعبدا سيكون لصهر “الجنرال”، وزير الخارجية الحالي جبران باسيل. ورث باسيل، الذي لم يستطع يوما ان يكون نائبا، زعامة “التيار” عن والد زوجته. ليس جبران باسيل، الذي يمتلك تأثيرا كبيرا، بل كاملا على ميشال عون، سوى الابن الذي لم ينجبه “الجنرال” يوما… فاستحق وراثته وهو لا يزال حيّا يرزق.
سيتوقف الكثير على أداء جبران باسيل، الذي يمتلك فضيلة العمل الدؤوب وقراءة الملفات بدقة. كلّ كلام عن انّ ميشال عون الذي يبلغ الثالثة والثمانين من العمر، في اقلّ تقدير، قادر على القيام بمهماته يظل مجرد كلام.
هناك امران يشغلان البال. الاوّل مرتبط بنفوذ “حزب الله” ومدى تأثيره على المقيم الجديد في قصر بعبدا والآخر لمدى استيعاب ميشال عون وجبران باسيل لاهمّية الانماء والاعمار انطلاقا من بيروت ومن كلّ مدينة ومنطقة لبنانية. انّها بيروت التي تشكل نموذجا للمدينة التي يلتقي فيها اللبنانيون من كلّ الطوائف والمذاهب والمناطق والطبقات الاجتماعية، بيروت التي كانت في الماضي قبلة العرب والأجانب، بل مدينتهم المفضلة على البحر المتوسط. تستطيع بيروت ان تلعب دورا مهمّا على الصعيد الإقليمي وفي الحدّ من هجرة اللبنانيين ووقف عملية افقارهم في حال سمح “حزب الله”، ومن خلفه ايران، للعرب والأوروبيين والاميركيين بالعودة اليها.
تصعب الإجابة عن السؤال المتعلّق بمدى النفوذ الذي سيمتلكه “حزب الله” في قصر بعبدا في عهد ميشال عون. لكنّ الأكيد ان الحزب سيشعر بالارتياح لوجود حليف له في رئاسة الجمهورية لن يطرح يوما موضوع سلاحه المذهبي الذي يستقوي به على اللبنانيين الآخرين خصوصا اهل السنّة. اكثر من ذلك، لن يكون في بعبدا شخص يمتلك ما يكفي من الجرأة ليقول للحزب انّ تورطه في الحرب التي يشنها النظام السوري، بدعم إيراني وروسي، على الشعب السوري لا يمكن الّا ان يجلب الويلات على لبنان واللبنانيين.
في كلّ الأحوال، سنكتشف في الأسابيع المقبلة هل تغيّرت نظرة ميشال عون الى المدينة والى دور بيروت المؤهلة لان تكون جاذبة للبنانيين والعرب والأجانب، ام المطلوب ان تكون ضاحية من ضواحي طهران الفقيرة لا اكثر؟ سنرى هل يمكن لـ”الجنرال” استيعاب معنى تورط ميليشيا مذهبية بعناصرها اللبنانية في الحرب الدائرة في سوريا؟
ليس في تاريخ ميشال عون ما يشجّع على التفاؤل. لكنّه كان “مخاطرة” لا مفرّ منها بعدما اعتبر “حزب الله”، الذي جعله على رأس كتلة من عشرين نائبا تافها، بل يجسدون التفاهة، الخيار الوحيد في حال كان مطلوبا سدّ الفراغ الرئاسي.
سنرى في الايّام القليلة المقبلة مشاهد فولكلورية لا علاقة لها بالواقع والذوق من قريب او بعيد من نوع تعطيل المدارس يوم انتخاب عون رئيسا للجمهورية. لكنّ الاسابيع الآتية ستجعلنا نكتشف هل كانت “المخاطرة” خيارا لا مفرّ منه للتأكد من انّ المسيحيين الذين التفوا حول ميشال عون، عن حسن نيّة او عن رغبة في وراثته، يدركون ماذا يفعلون؟
ما هي أسابيع الّا ونرى هل كلّ ما في الامر ان المسيحيين في لبنان، والكلام هنا عن اولئك الذين ايّدوا ميشال عون، يستأهلون “الجنرال”؟ انّهم يستأهلون ذلك لم يتوقف لحظة ليسأل نفسه كيف للبنان ان يعيش في ظلّ “المرشد”؟
ارتكب قسم من المسيحيين في لبنان عددا لا يحصى من الأخطاء، خصوصا منذ اتفاق القاهرة في العام 1969… وصولا الى ان يكون “المرشد” وصيّا على الجمهورية. الخطأ الأخير يمكن ان يكون قاتلا بالنسبة اليهم، خصوصا اذا لم يوجد في قصر بعبدا من يدرك ان هناك ثمنا مطلوب دفعه لقاء الوصول الى الرئاسة بقوة سلاح غير شرعي شريك في كلّ الحروب ذات الطابع المذهبي الدائرة في المنطقة وليس في سوريا وحدها.