إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
يأخذ التعريف في بعض الأحيان مسارا مناهضا للوظيفة التي أراد أن ينجزها، فهو لا ينتمي للتوضيح، وقد يكون على علاقة مضطربة مع المعرفة العلمية. وهكذا هو الوضع مع مفردة “الروح”. فقد تاهت التعريفات في توضيح معنى المفردة، بل عجزت قبل ذلك عن تأكيد وجود الروح. وقد لعب المخيال الديني والفلسفي التاريخي دورا كبيرا في تكثير المعنى وتباينه، الأمر الذي جعل المفردة في علاقة شائكة مع العلم ومع المنهج العلمي.
البعض يتساءل: هل يجب أن يكون تعريف أو تفسير الروح مبنيا على العلم، أم يكفي أن يكون متّسقا مع الكلام الديني، أو هو مجرد مسعى فلسفي؟ هل يكفي النوع الفلسفي، أو الديني، من التعريف لتوضيح معنى الروح وتأكيد وجودها؟
البعض، مثل اللغوي الفرنسي فرانسوا إلكساندر، يعتقد بأن الروح كيان خارق للطبيعة. بمعنى أنها ليست جزءا من الطبيعة. يقول إلكساندر إن الروح غير ملموسة على غرار كيانات مماثلة أخرى كالأشباح والجان والملائكة. وهو رأي شبيه بما هو سائد في الأديان والاعتقادات والثقافات الغيبية.
بمعنى أن الروح شأن إيماني، وأن الإيمان بوجود الروح يجسّد ما يسمى “بالمادة الأثيرية الأصلية الخاصة بالكائنات الحية”. واستنادا إلى ذلك، فإن الروح مخلوقة من جنسٍ لا نظير له في الوجود. وهناك من يعتقد بأنها “الأساس للإدراك والوعي والشعور” لدى الإنسان.
بعبارة أخرى، رغم أن تعريف الروح لا يرتبط بكونها شيئا ماديا ملموسا مرتبطا بيولوجيّاً بجسم الإنسان، إلا أن الروح تُعتبر عند البعض مصدر “الإدراك الذهني”. كيف؟ إن ذلك مجرد ربط فلسفي أو كلامي/إيماني لا علاقة له بالواقع المادي العلمي ولا بالمنهج العلمي، أو بمعنى آخر لا علاقة له بالشأن الطبيعي.
إن الناس يقولون عادة إنهم يمتلكون روحا. يصفونها بأنها القوة الخفية التي “تعطيهم الحياة”. أي أنها تُبقي الإنسان على قيد الحياة. لكنها عند البعض، ترتبط إرتباطا وثيقا بذكريات الشخص وعواطفه وقيمه. وقد تباحث آخرون في أن الروح ليس لها كتلة ولا تأخذ مساحة وأنها لا تتمركز في أي مكان.
لذلك، مفارقة الروح للجسد، بالنسبة للكثيرين، تعني “الموت”، على الرغم من أن الروح مستقلة عن الجسد وليس لها حضور مادي أو حسي في الجسد ولا يمكن مشاهدة مفارقتها للجسد. يقول الإمام علي بن أبي طالب في نهج البلاغة (الخطبة 81): “…وصارت الأجساد شحبة بعد بضّتها، والعظام نخرةً بعد قوّتها، والأرواح مرتهنة بثقل أعبائها، موقنة بغيب أنبائها…”.
هذا، ويطلق مفسرّون على الروح اسم “النفس”، وأن النفس هي التي تذوق الموت. وقال آخرون إن النفس إذا خرجت من الجسد تسمى روحا، وأن مفردة نفس هي لتبيان أنّ الروح هي حقيقة الإنسان وشخصيته الواقعية، هي نفسه وذاته، في حين أن الجسد أو البدن يمثّل ما يشبه الآلة واللباس لها فحسب. فما يسمى ب”حقيقة الروح” هو بمعنى استمرار الحياة بعد أن يفنى الجسد. لذا يتحدث القرآن عن الرفات وتلاشي الجسد، لكنه يعبّر عن صاحب الجسد بأنّه حيّ، وهذه إشارة إلى تلك “الحقيقة” التي بها يحيا الجسد، والتي لها بُعد وراء البدن بحيث تبقى حيّة بعد تحوّل الجسد إلى رفات. ويشير المفسرون الى أن هذا المعنى موجود في الآية التالية من القرآن: “مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ الله بَاقٍ” النحل، الآية 96، حيث المراد ب”مَا عِنْدَكُمْ” هو “ما نراه في عالم الطبيعة المتغيّر، حيث يتعرّض للبلى دوما”، وأمّا “مَا عِنْدَ الله” وكلّ ما له إشارة إلهيّة “فلا ينفد ولا يفنى بل هو باق”.
على الرغم من أنه لا يوجد وضوح واتفاق في التفسير الإسلامي حول معنى الروح، وما هي الروح، فالآية 85 من سورة الإسراء تقول: “وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا”، إلا أن هناك اتفاقا على أنها موجودة وجزء من كيان الإنسان وستبقى في حال موت الجسد: “وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ”، الآية ١٦٩ و١٧٠ من سورة آل عمران.
وهناك آية أخرى أشارت إلى أن الروح بعد موت الجسد ستعيش في حياة ما يسمى “بالبرزخ”. كذلك هناك معاني متفاوتة أخرى لمفردة روح في القرآن، لكنها بعيدة عن السياق الفائت المرتبط بالجسد والموت. فالروح إشارة إلى القرآن، وكذلك إلى الوحي، وإلى جبريل، وإلى القوة والثبات والنصرة، وإلى المسيح ابن مريم.
يقول ابن عربي في “أحكام القرآن” عند تفسير “ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا”، إن “الروح خلق من خلق الله تعالى جعله الله في الأجسام فأحياها به وعلمها وأقدرها، وبنى عليها الصفات الشريفة والأخلاق الكريمة، وقابلها بأضدادها لنقصان الآدمية، فإذا أراد العبد إنكارها لم يقدر لظهور آثارها، وإذا أراد معرفتها وهي بين جنبيه لم يستطع لأنه قصر عنها وقصر به دونها”.
وحتى بعض الفلاسفة الغربيين غير المعاصرين وغير المحسوبين على المدرسة الدينية، كانوا يعتقدون بوجود الروح، سواء الروح باعتبارها منفصلة عن الجسد أو باعتبارها مرتبطة بالجسد. فإفلاطون اعتبر الروح أساس كينونة الإنسان. وأرسطو رأى أن الروح هي المحور الرئيسي للوجود، معتبرا أن الروح مرادفة للجسد. وديكارت اعتبر أن الروح تقع في منطقة محددة من الدماغ. فيما طالب كانط علماء النفس أن يفسروا الروح على أساس نفسي.
إن أول دليل موثق في تاريخ البشرية لمسمى الروح كان في الديانة السومرية التي ترعرعت في بلاد الرافدين قبل حوالي 5000 عام. ويُعتبر السومريون، ثم البابليون، أول من فسّروا الروح واعتبروها كائنا شبحي يحرك الجسم، وعندما تخرج يتوقف الإنسان عن الحركة ويحدث الموت.
ومع تطور الأديان، تزايدت التفسيرات حول الروح. أحدها قال بأنها تعكس ظاهرة الحياة بشكل عام وتوجد لدى الحيوانات وعند أي كائن يتحرك. وعلق البعض مؤكدا بأن هذا التفسير البدائي جداً جاء في حقبة كانت تخلو من أدوات وآليات العلم الحديث لتفسير ظواهر الكون والحياة.
السرد الفائت والمختصر، يجدّد التساؤل بأنه هل يجب أن يأتي الجواب على سؤال ما هي الروح، من العلم؟
أحد العلماء المتخصصين في علم الأعصاب وفي علم النفس لا يجد ضرورة أو منفعة من الروح، انطلاقا من أن جميع الوظائف التي تُعزى للروح يمكن أن تفسَّر عن طريق عمل الدماغ.
وعلم النفس، حسب هذا المتخصص، هو دراسة السلوك من أجل تعديله، كما هو الحال في معالجة الإدمان والهلع (الفوبيا) والقلق والإكتئاب. ومن ثم لا يحتاج علماء النفس إلى تصديق الناس بأنهم يمتلكون أرواحا. الأكثر أهمية بالنسبة لعلماء النفس من عدم وجود الروح هو عدم الحاجة إليها.
ويضيف هذا العالِم: “إذا كانت الروح تكمن في العاطفة والدافع الذاتي الداخلي، حيث يحدث النشاط العقلي وتُلاحَظ الأحاسيس وتُخزّن الذكريات ويأخذ المنطق مكانه وتُتخَذ القرارات، إذاً ليس هنالك حاجة إلى افتراض وجودها، والسبب أن هنالك عضو ينفّذ فعلاً هذه الوظائف وهو الدماغ”.
وقد أكد أبوقراط (أبو الطب، 377 – 460 قبل الميلاد) على ضرورة أن يعلم الإنسان أن البهجة والسرور والضحك والرياضة والكآبة والحزن واليأس أوالجزع والرثاء، كلها تأتي من الدماغ وليس من أي شيء آخر.
وتأكيدا، يقول علماء ومختصون في العلوم الطبيعية إن كل شيء في الكون هو إما مركّب أو عنصر فيزيائي. فالهواء على سبيل المثال لانراه وإنما نحس به، وهو مركب من عنصرين ويتكون من 78% من غاز النيتروجين تقريبا، و21% من غاز الأوكسجين، وكذلك من بعض الغازات النادرة. لذلك، يستطيع العلم إثبات وجود الشيء الذي نحس بتأثيره، ويمكننا تحليله ومعرفة ما يتكوّن منه. فنحن لا نرى الكهرباء ولكن ندرك تأثيرها. ونحن لا نرى الأشعة تحت المرئية، ولكن باستخدام أجهزة الكشف الإشعاعي يمكننا رؤيتها.
فماذا عن الروح؟ حسب العلماء والمختصين في العلوم الطبيعية، نحن لا نحس بالروح ولا نحس بتأثيرها ولا ندرك تأثير وجودها ولا نعرف مما تتكوّن. لذلك، نستنتج أنّ ادعاء بوجود شيء لا نحس به ولا نحس بتأثيره ولا ندرك وجوده ولا نعرف مما يتكوّن، لا وجود له، ومن ثم لن يكون إلا مجرّد وهم، والوهم هو لاشيء. إن تفنيد وجود الروح هنا مطابق لتفنيد وجود الكثير من الخرافات. إذن الروح، هي لاشيء، مجرّد أسطورة، ويصدّق وجودها مَن يجهل العلم.
إن جميع الأساطير والأوهام كانت منطلقا لتفسير ظواهر الحياة قديماً، مثل الموت. فالإنسان القديم كان يفتقر للعلم بشكل كبير. فكان يلجأ لصنع الأساطير ليسد فراغ الجهل الذي لديه. لذا حينما يموت الإنسان، لن تكون هناك حسب المنهج العلمي روح تخرج منه، بل هناك تفسير علمي للموت تجهله الرؤى الدينية.
في جدل وجود الروح من عدمه، ألا يفترض، قبلا، إثبات وجود الروح، ثم السعي بناء على الإثبات لطرح تعريف واضح وشفاف حول الروح، ثم بعد ذلك يتم فتح باب جدل آخر متمثل في إثبات أن الروح هي سبب الحياة؟
بما أنه من المفترض أن تتوافق المفاهيم الدينية مع العقلانية، كيف يمكن للروح بوصفها مفهوما دينيا، أن تبقى سرا من الأسرار المفاهيمية والتي تعذّر حتى الآن الاتفاق على تعريف واضح لها؟ ففي حين أن العقلانيين الماديين يرفضون الاعتراف بوجود الروح، بسبب فقدان أي أساس مادي لها ومن ثم عجز المختصين الفيزيائيين والبيولوجيين وحتى علماء النفس عن إيجاد تفسير علمي لوجودها، لكن في حقيقة الأمر أن العلم لم يعجز عن ذلك وإنما لم يثبت لديه وجود شيء اسمه الروح، بينما الكلام الديني والفلسفي هو من عجز عن التوصّل إلى تعريف واضح ومقنع.
إن تلك النتيجة قد تحيل التعريف/ التفسير إلى الإيمان، الغيب، اليقين. أما السعي لربط التعريف/التفسير بالعقل، لكي يفهم الناس معنى الروح فهذا غير وارد حاليا ومحال إن صح التعبير، إلا في ظل فتح باب التأويل أمامها، ما يجعل أفق نتائج التأويل واسعا جدا ومتعددا جدا لا يمكن التحكم فيه.
ولكي تتوضح الفكرة الدينية في أن الإنسان سيُحاسب بعد موته، أو بعد فناء جسده، فقد تم صناعة فكرة غير مادية أو غير علمية تسمى الروح، على الرغم من أن الانسان حينما يموت ستموت كل “الداتا الذهنية” التي معه، وستتعقد مسألة ما يسمى بالحساب والكتاب، لكن في نهاية الأمر ستبرز الفكرة الدينية المتمثلة في أن “الله على كل شيء قدير”. هذه العبارة ستُطرح في نهاية مطاف البحث والنقاش ليتم من خلالها إغلاق النافذة البحثية.
في أحد الأيام، سألت أحد الأصدقاء: ما هو الله؟ وأردت منه الحصول على تعريف واضح وبسيط حول معنى الله. غير أنه، وبشكل مفاجئ، أحالني إلى أحد مشايخ الدين لكي يجيب “إجابة راسخة” على سؤالي. لكنني أصررت على أن أسمع الإجابة منه، أو أسمع وجهة نظره. قلت له أريد جوابك، وإني لو أردت سؤال الشيخ لسألته، فرفض. وبدا واضحا لي أنه لا يعرف الإجابة. أو بمعنى آخر، لا يملك إجابة واضحة وبسيطة وصريحة على السؤال. بعبارة أخرى، بما أن سؤال ما هو الله أصبح اليوم صعبا، في ظل التطوّرات التي شهدتها ساحة العلوم أو شهدتها العقلانية بشكل عام، والتي ضيقت الخناق على التعريف التقليدي التاريخي، فكيف يمكن التوصل إلى إجابة واضحة وبسيطة وصريحة حول وجود الروح ومعنى الروح، والتي أحالها الخطاب القرآني إلى جهة أخرى (عليا إن صح التعبير)؟
لم يعد ينفع، اليوم، الاستعانة بالإجابات التقليدية التاريخية للرد على أسئلة الدين المتعلقة بالحياة والوجود فيما بات للعقلانية وللعلم دور كبير للرد عليها وبشكل ممنهج وبسيط. بعبارة مختصرة، لم يعد ينفع أن تتم الإجابة على سؤال ما هو الله أو ما هي الروح كما تسلسل وتنوع عبر التاريخ. فالقول، مثلا، إن الله هو الخالق، خالق السماوات والأرض، أو خالق الإنسان، وغيرها من إجابات دينية، لا تستطيع أن تتماسك أمام رد العلم الحديث الذي لديه اجابات مستدلة ومقنعة لا تُدخل السائل في متاهات الكلام والفلسفة وحتى الخرافة.
نعم، هناك إجابات دينية وفلسفية على كثير من الأسئلة الصعبة. لكن الإجابات المنتمية إلى المنهجية العلمية أثبتت بأنها قادرة على أن تكون محل ثقة أكبر في معالجة الكثير من المتاهات بشكل بسيط وواضح ودون عُقد.
المصادر:
– روح، ويكيبيديا.
– الروح في الإسلام، ويكيبيديا.
– موقع “إسلام ويب”.
– سلسلة أركان الإيمان: الإيمان باليوم الآخر، ص 23-28، الدكتور علي الصلابي.
– موقع “العلوم الحقيقية”.
– نهج البلاغة.
– شبكة المعارف الإسلامية الثقافية.
– https://atheistdoc.wordpress.com/2016/06/09/%D9%85%D8%A7-%D9%87%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%88%D8%AD-%D8%9F/