(نشر “الشفاف” مقال حسن خضر في آخر يوم من شهر أغسطس ٢٠١٦، وقرّرنا إعادة نشره لمناسبة نقاشات بلدية مدينة “غرونويل” الفرنسية حول السماح بارتداء “البوركيني” في المسابح العامة. مثل حسن خضر نحن ضد “البوركيني” للنساء، ولا نمانع في فرضه على الرجال، أمثال القرضاوي وصحبه!).
*
تنطوي الميسيائية على دلالة الخلاص ونهاية الأيام. وبقدر ما أرى الأمر، أعتقد أن ظهور الدواعش يؤشر إلى دخول عالم العرب والإسلام والمسلمين مرحلة كهذه. فالظاهرة الداعشية لا تنحصر في مكان بعينه. وهي، في عالم تعولم، كونية، أيضاً. لذا، لا يقتصر خطرها على عالم الإسلام والمسلمين، بل يطال البشرية في أربعة أركان الأرض. ولا يعرف أحد متى ستنتهي. فقد يحتاج الأمر إلى جيلين، على الأقل، كما يقول مايكل موريل، النائب السابق لمدير السي آي إيه، قبل الكلام عن وصول الموجة إلى منتهاها.
وإذا كنّا لا نعرف متى ستنتهي، فليس من السابق لأوانه القول إنها كارثية، وأن عالم العرب والإسلام والمسلمين لن يكون بعدها كما كان قبلها. العالم سينتصر على الميسيائية الإسلامية، ولكن أحداً لا يستطيع التكهّن بالثمن الذي ستدفعه البشرية، وماذا سيكون عليها حالها، بعد الخروج من “صدام الحضارات”. فالحرب تغيّر المحترقين بنارها على جانبي خطوط التماس.
هل ستتمكّن الديمقراطية من البقاء كنظام للحكم؟ وهل ستحظى حقوق الإنسان بمكان الأولوية في علاقة الحكّام بالمحكومين؟ وهل سيتكلّم أحد بعد عقود قد تطول أو تقصر عن التعددية الثقافية كقيمة عليا؟ ومع هذا وذاك، وقبل هذا وذاك: هل ستتمكن أوروبا من البقاء، وهل ستبقى الولايات المتحدة مُوّحدة؟
ولا حاجة، في الواقع للتساؤل بشأن العالم العربي، فلا مستقبل للعرب في عالم القرن الواحد والعشرين، فلن يتمكنوا بعد عقود من إنتاج أو شراء ما يكفي من الغذاء، ومن الطاقة. وحتى مستقبل الشرق الأوسط، لا يوحي بالطمـأنينة، فحجم موارده من الماء لا يبلغ أكثر من واحد بالمائة من موارد العالم. وفي ظل الاحتباس الحراري، وتغيّر المناخ، لا يبدو أن ثمة الكثير من الضوء، في هذا القرن، في آخر النفق.
على خلفية كهذه، نتكلّم عن البوركيني، الكلمة التي نجمت عن دمج البرقع، والبكيني، لوصف لباس البحر، الذي ابتكرته بعض المسلمات لأنفسهن على الشواطئ الأوروبية. ويمكن لمستهلكي الأخبار، والنوادر، العودة إلى الإنترنت للعثور على ما لا يحصى من المعلومات في هذا الشأن، أحدثها (وأكثرها ابتذالاً) فيديو يحاول التدليل على الفرق في قيم التسامح بين البريطانيين والفرنسيين في موضوع البوركيني.
ولنبتعد كثيراً عن الموضوع لنقترب أكثر. البوركيني مفردة هجينة، نصف عربية ونصف أعجمية، تجتمع فيها دلالتان على طرفي نقيض: البرقع، العربي المنشأ الذي ينتمي إلى قرون مضت، وكان محصوراً حتى وقت قريب في بيئات ومناطق معيّنة، ولم يكن ظاهرة عامة، ويُراد له أن يحجب المرأة عن عيون الآخرين، والبكيني، الأوروبي المنشأ، الذي ينتمي إلى عقود خلت، ويُراد به وله الاحتفاء بالجسد، كدليل على صعود المرأة في التاريخ، مع كل ما للأمر من علاقة بالمساواة، والحرية، وتغيّر قيم الجنسانية، والعلاقة بين الجنسين. المهم أن مفردة البوركيني الهجينة أضيفت الآن إلى كل لغات الأرض، بما فيها العربية، ولا نعرف من ابتكرها.
في مراحل تاريخية سبقت، عندما احتك العرب والمسلمون بالغرب في زمن الفتوحات، والحروب الصليبية، دخلت إلى اللغات الأوروبية مفردات عربية من نوع: أمير البحر، ودار السلاح، والجبر، والكيمياء، ودار الصناعة، والمخزن، والقهوة، والقطن، والحشيش. ولنسأل: ماذا أخذ المسلمون والعرب من مفردات من لغات العالم هذه الأيام، وماذا أضافوا إليها:
أخذوا: الإنترنت، والآيفون، والتلفزيون، والكومبيوتر، والفيلم والفيديو والسينما (والديمقراطية والبرلمان). وأضافوا: الشريعة، والحلال، والحجاب، والبرقع، والوهابية، والسلفية، وأخيراً البوركيني (إنتاج عربي ـ أوروبي مشترك). ولننس علوم الطب والفلك والهندسة والفيزياء والرياضيات. ألا يدل الفرق بين ما نأخذ وما نُعطي على حقيقة من نوع ما؟
وبعد تساؤل كهذا يمكن العودة إلى مشكلة البوركيني، وقد أصبحت في سياق أكبر، وأكثر دلالة. فما يحدث في هذا الشأن يمثل نوعاً من الصدام بين عالم المسلمين والغرب على مستوى الرموز، ولا يمكن أن يكون قابلاً للفهم إلا وفي الذهن موجة الميسيائية الداعشية التي تجتاح عالم الإسلام والمسلمين، وتهدد العالم.
الشائع أن “صدام الحضارات” مصطلح وهمي، من ابتكار اليمين الغربي. ولا تزال في الذهن مرافعة إدوارد سعيد، في هذا الشأن. ومع ذلك، ليس من الحكمة طرد مفهوم “صدام الحضارات” من كل محاولة للبحث عن تفسير مُحتمل للموجة الداعشية.
لا ينبغي القول إن المفهوم يختزل كل ما حدث ويحدث، ولكنه يمثل جانباً من الحقيقة. وهذه الفرضية، حتى وإن كانت إشكالية، وتحتاج إلى براهين إضافية، ضرورية للتفكير في فرضية إضافية مفادها: لن ينجو عالم الإسلام والمسلمين من الكارثة ما لم ندرك حقيقة أن العرب والغرب، وبقية العالم، في خندق واحد، وأن القيم التي ستمكّن العالم من النجاة كونية بالضرورة.
وفي سياق كهذا، يجد كاتب هذه السطور نفسه أقرب إلى المنادين بحظر البوركيني منه إلى المدافعين عنه، وعن الحق في الاختيار، والتعبير عن التعددية الثقافية. هذه عناوين وقيم جميلة، بالتأكيد، ولكن يصعب الاعتقاد أن الذي صنع الفيديو المُبتذل للتدليل على مدى تسامح البريطانيين وتعصّب الفرنسيين، يؤمن فعلاً بقيم الحرية والتعددية الثقافية، فهذه وتلك مجرد منافذ لشن حملات إعلامية، وترويجية، ودعائية ناجحة، تستهدف تكريس الاستثناء الإسلامي كحقيقة ينبغي على الغرب التسليم بها، وإلا وصمه الإسلاميون بخيانة القيم التي يعتنقها. إذاً، في البوركيني ما هو أكثر من القماش.
khaderhas1@hotmail.com
perfect article. Thank you.