من اليوم الأول لشهادته أمام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، عرّى الزعيم الدرزي كمال جنبلاط النظام السوري. فكّك النظام من خلال معرفته برجاله.
كشف جنبلاط بحسّه السياسي المرهف طبيعة النظام الذي دمر سوريا وكاد أن يدمّر لبنان لولا صمود اللبنانيين واصرارهم على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من بلدهم.
هناك نقاط عدّة يمكن التوقف عندها بعد سماع جنبلاط يدلي بشهادته في لاهاي أمام المحكمة التي تنظر في قضية إغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه، فضلا عن جرائم أخرى، أحيلت أو يمكن أن تحال عليها. ولكن يظلّ أهمّ ما في الشهادة كشفها الوجه الحقيقي للنظام السوري في أيّام الأب وفي أيام الإبن. من الواضح أن لا فارق كبيرا بين الأب والإبن باستثناء أنّ الأوّل كان يعرف جيدا كيف يخفي الطبيعة العلوية للنظام عبر تغطيتها بشخصيات من سنّة الريف مثل العماد حكمت الشهابي الذي كان رئيسا للأركان أو السيّد عبد الحليم خدّام الذي كان نائبا لرئيس الجمهورية.
أوضح جنبلاط، بما لا يقبل أيّ شك، أن الأسد الأب ترك هامشا للمناورة لكلّ من الشهابي وخدّام اللذين كان يعتبرهما “صديقين” له. ولكن في نهاية المطاف، كشف ما يفترض أن يكتشفه كلّ سياسي يمتلك حدّا أدنى من النضج والرؤية. كشف أن العدو الأوّل للنظام السوري هو السنّي ابن المدينة الذي يمتلك علاقات عربية ودولية. وهذا ما جعل بشّار الأسد يخشى رفيق الحريري ويسعى إلى التخلّص منه.كان يخشى دائما من وجود زعيم قوي يمتلك علاقات عربية، أكان ذلك في سوريا نفسها أو في لبنان.
فكّك وليد جنبلاط النظام السوري. استخدم اللواء غازي كنعان الذي كان مسؤولا حتّى العام ٢٠٠٢ عن لبنان. واستخدم الشهابي وخدّام والعبارات التي كانا يمرّرانها له بين حين وآخر. كذلك، استخدم دعوات الغداء، لدى اللواء محمّد ناصيف (أبو وائل) الذي كان يطغى عليها الجوّ العلوي. واستخدم حتّى رستم غزالي الذي كان عليه أن يتعامل بفظاظة مع رفيق الحريري.
فبعد اللقاء الأوّل الذي عقده الزعيم الدرزي مع بشّار الأسد، قبل أن يصبح الأخير رئيسا، خرج جنبلاط بانطباع فحواه أنّ الأسد الإبن لا يعرف شيئا عن لبنان واللبنانيين، خصوصا عندما راح يطرح أسئلة تتناول المناطق التي يعيش فيها الدروز في لبنان، مشيرا إلى “أنّ له جماعة أيضا بين الدروز”. وقد دفع ذلك بغازي كنعان إلى تمرير رسالة إلى وليد جنبلاط عندما قال له “الآن صرت تعرف من هم آل الأسد”. كان يريد أن يقول له أن بشّار ليس سوى جاهل في أمور لبنان، وذلك قبل أن يتبيّن لاحقا أنّه جاهل أيضا في أمور سوريا. لم يدرك جنبلاط مغزى الرسالة، إلّا بعد “انتحار” غازي كنعان. وكان ملفتا أنّه أصرّ على تريد عبارة أنّ غازي كنعان “أُجْبر على الإنتحار”.
إتّهم وليد جنبلاط حافظ الأسد مباشرة بقتل والده. لم يتّهم بشّار الأسد بشكل مباشر بإغتيال رفيق الحريري. لكنّ الواضح أنّه استطاع رسم الأجواء التي هيّأت للجريمة التي تندرج في سياق الحرب التي يشنّها النظام السوري على أهل السنّة، خصوصا على سنّة المدن الكبيرة.
من خلال إغتيال رفيق الحريري، يمكن فهم ذلك الحقد على كلّ ما هو سنّي في لبنان. كذلك يمكن فهم تلك النقمة على كلّ سياسي كانت له حيثية بغض النظر عن مذهبه. لذلك، اغتيل كمال جنبلاط الذي لم يسمع نصيحة انور السادات، فيما إضطر ريمون إده إلى تمضية بقية حياته في المنفى الباريسي.
في ضوء شهادة وليد جنبلاط، يمكن فهم لماذا كان اغتيال المفتي حسن خالد والإغتيال السياسي لصائب سلام وتقيّ الدين الصلح. كذلك، يمكن فهم لماذا لم يستطع النظام السوري أن يطيق وجود بشير الجميّل أو رينيه معوّض في رئاسة الجمهورية…
تساعد شهادة وليد جنبلاط في اعادة تركيب النظام السوري قطعة قطعة. إنّه نظام يقوم اساسا على تقارير لأجهزة المخابرات المتعددة التي يتجسس كلّ منها على الآخر. تصبّ التقارير، التي تبدو وكأنّها العمود الفقري للنظام، عند الرئيس الذي يبدو واضحا أنّه لا يثق سوى بعدد قليل من الأشخاص، هذا إذا كان يثق بأحد.
من يستمع إلى وليد جنبلاط أمام المحكمة الدولية، يدرك لماذا إنتهى النظام السوري بالطريقة التي إنتهى بها. إنّه نظام لا يعرف سوى التدمير ولا شيء غير التدمير. عمل على تدمير لبنان ويعمل حاليا على تدمير سوريا. فشل في تدمير لبنان كلّيا، لكنه زرع فيه امراضا سيكون من الصعب عليه التخلّص منها، خصوصا بعدما أقام هذا التحالف مع “حزب الله”، الذي ليس سوى ميليشيا مذهبية تعمل لمصلحة ايران ولا هدف لها سوى نشر البؤس والفقر في الوطن الصغير.
هدّد بشار الأسد رفيق الحريري بأنّه “سيكسرّ لبنان”، وذلك عندما بدا أن هناك محاولات يبذلها الرئيس الفرنسي جاك شيرك لإخراج الجيش السوري من لبنان. هذا ما نقله جنبلاط عن الحريري بعد لقاء له مع رئيس النظام السوري. إنتهى الأمر بتكسير قسم لا بأس به من لبنان. لكنّ ما تكسّر في نهاية المطاف كان سوريا.
ما لم يقله وليد جنبلاط أن النظام السوري لا يستطيع أن يبني. يستطيع أن يهدّم. هذا كلّ ما يستطيع عمله. حيثما حلّ يحلّ الدمار. حلّ في سوريا، فحلّ معه الدمار. في كلّ يوم كان فيه ضيفا على لبنان، كان الدمار رفيق اللبنانيين بدل أن يكون رفيقهم مشروع الإنماء والإعمار الذي وقف خلفه رفيق الحريري.
بغض النظر عن كلّ المحاولات ذات الطابع الفولكلوري التي حاول من خلالها وليد جنبلاط التمسّك باتفاق الطائف وعدم الربط بينه وبينه القرار الرقم ١٥٥٩ الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والذي دعا إلى حلّ كل الميليشيات المسلحة في لبنان وإلى انسحاب الجيش السوري منه، يظلّ أن القرار والطائف شيء واحد. كلّ كلمة واردة في القرار، واردة أيضا في نص إتفاق الطائف.
كانت شهادة وليد جنبلاط شيّقة، خصوصا لجهة كشف حقيقة النظام السوري. تفادى الرجل، أقلّه في اليوم الأوّل، أي اشارة إلى “حزب الله” وإلى ملائكته المتهمين بتنفيذ الجريمة. هذا أمر يمكن أن تكون له إنعكاساته الإيجابية على الصعيد الداخلي في لبنان.
المهمّ الآن، على صعيد المحكمة الدولية، استكمال رسم الأجواء التي إرتُكبت الجريمة في إطارها، بما في ذلك التقارب المسيحي ـ الإسلامي والدور الطليعي الذي لعبه البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير في التصدي للإحتلال السوري… وصولا إلى مرحلة يصبح من السهل فيها القول: الجريمة واضحة وأبطالها معروفون!