يطرح نهب المنازل في تكريت وتشريد أهلها موضوعا مرتبطا بمستقبل العراق. يطرح هذا الموضوع نفسه بحدّة، خصوصا أنّ غير مسؤول عراقي وصف “الحشد الشعبي”، الذي هو كناية عن مجموعة من الميليشيات التابعة لأحزاب مذهبية، تابعة بدورها لإيران، بأنّه “مؤسسة رسمية”. بكلام أوضح، هناك ميليشيات مذهبية دخلت تكريت حيث تصرّفت باسم الحكومة العراقية، بل اعتبرت نفسها جزءا لا يتجزّأ من مؤسسات الدولة، أي من العراق الجديد. حصل نهب واحراق منازل واعدام لعراقيين، ثمّ انسحب المهاجمون.
هل رحل عراق النظام العائلي ـ البعثي ليحلّ مكانه عراق “الحشد الشعبي”، أي الميليشيات المذهبية التي صارت تمثّل الدولة وباتت رمزها حتى لا نقول عنوانها؟
المفارقة أنّ الميليشيات المذهبية بدأت، منذ ٢٠٠٣، تسرح وتمرح في أرض العراق برعاية الإحتلال الأميركي. بعد إثني عشر عاما على سقوط بغداد، تجتاح هذه الميليشات، أو على الأصحّ، تغزو تكريت وتتقدم في اتجاه المدينة وتحطّم وتدمّر وتحرق وتنهب وتهجّر أهلها بغطاء جوّي أميركي!
كان لا بدّ من طرد “داعش” من تكريت. هذا التنظيم ليس سوى تجسيد للإرهاب الذي يُمارس باسم الدين. ما ليس مقبولا أن تتصرّف الدواعش الشيعية، المنضوية تحت ما يسمّى “الحشد الشعبي”، على طريقة “داعش”. ليس مقبولا في أيّ شكل أن يلجأ “الحشد الشعبي” إلى الإنتقام من أهل تكريت بطريقة أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها همجية.
ما كشفته غزوة تكريت أنّ لا أمل في بناء دولة عصرية في العراق. ما كشفته أيضا أن الإدارة الأميركية الحالية تجهل كلّ شيء عن العراق وعن تركيبة البلد وتعقيداته. لعلّ أخطر ما في الأمر أن الطائرات الأميركية باتت توفّر، بعد إثني عشر عاما على غزو العراق، غطاء لعملية تطهير عرقي تستهدف امرين. الأوّل عزل بغداد عن محيطها، أي خلق منطقة عازلة بينها وبين محافظة صلاح الدين التي تقع فيها تكريت. أما الأمر الثاني فهو يتمثّل في تأكيد أن لا مكان للسنّة العرب في تركيبة العراق الجديد.
يبدو عهد باراك اوباما، في الجانب العراقي منه، امتدادا لعهد جورج بوش الإبن. ما يفعله باراك اوباما استكمال لما بدأ يتبلور في مرحلة ما بعد غزو العراق في ٢٠٠٣ وربّما في المرحلة التي مهّدت للغزو. وقتذاك، إتخذت ادارة بوش الإبن سلسلة من القرارات تستهدف تسليم العراق على صحن من فضّة لإيران.
من بين تلك القرارات قانون اجتثاث البعث الذي وُضع في طهران وتولّى طرحه عراقي مرتبط تاريخيا بإيران. ساهم القانون في طرد السنّة العرب من مؤسسات الدولة العراقية بشكل خاص. جاء بعد ذلك القرار الأميركي بحلّ الجيش العراقي وذلك بحجة استبعاد كلّ ما له علاقة من قريب أو بعيد بالنظام السابق.
من الممكن القول أن الوقاحة الصارخة بالنسبة إلى التعاطي مع السنّة العرب تمثّلت في تشكيل مجلس الحكم الذي إعتبر السنّة العرب من المكوّنات الهامشية للمجتمع العراقي، علما أنّ هناك تاريخا مشتركا وروابط من كلّ نوع بين الشيعة العرب والسنّة العرب في العراق. لا توجد عشيرة عراقية ليس فيها سنّة وشيعة في الوقت نفسه. لماذا كلّ هذا التركيز المتعمّد على التمييز بين السنّي والشيعي في العراق؟
يمكن العثور على الجواب في مؤتمر المعارضة العراقية الذي إنعقد في لندن في الشهر الأخير من العام ٢٠٠٢. صدر عن المؤتمر بيان في غاية الخطورة أسّس للعراق الجديد بعدما تضمّن عبارة “الأكثرية الشيعية في العراق”.
إنعقد المؤتمر برعاية اميركية ـ ايرانية. كانت هذه العبارة بمثابة شرط ايراني للقبول بارسال شيعة عراقيين من فصائل المعارضة إلى المؤتمر الذي حضره الأكراد ممثلين بمسعود بارزاني وجلال طالباني. حصل الأكراد على ما يريدونه وهو أنّ العراق سيكون دولة “فيديرالية”. من حقّهم السعي إلى ذلك في ضوء الظلم الذي تعرّضوا له منذ سقوط الحكم الملكي في العام ١٩٥٨ نتيجة انقلاب عسكري تميّز أول ما تميّز بالدمّ والوحشية.
كان متوقّعا أن يكون باراك اوباما مختلفا عن جورج بوش الإبن. إذا به يسير في الإتجاه نفسه. الفارق الوحيد كان أن بوش الإبن سعى إلى اصلاح الأخطاء التي ارتكبها عندما بعث بقوات اضافية إلى العراق بقيادة الجنرال ديفيد بتريوس الذي كان وراء “الصحوات”.
فشل بوش الإبن في اصلاح أيّ شيء، في حين فشل اوباما الذي لم يكن لديه من همّ آخر سوى تسريع الإنسحاب العسكري الأميركي من العراق. عمليا، كان ذلك تسريعا لعملية التسليم الكامل للعراق إلى ايران…وصولا إلى غزوة تكريت.
ليست غزوة تكريت التي تذكّر بغزوة ميليشيا “حزب الله” لبيروت في أيار ـ مايو ٢٠٠٨، سوى تتويج للفشل الأميركي في العراق. تعبّر عن هذا الفشل عملية التدمير والنهب المنظّمة للمدينة. لعلّ أخطر ما في الأمر أن القوات النظامية العراقية بدت عاجزة عن وضع حدّ لممارسات الميليشيات المذهبية المسمّاة “الحشد الشعبي”.
تبيّن في نهاية المطاف أنّ لا فارق كبيرا بين نوري المالكي ورئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي. لدى كلّ منهما اسبابه للإنتقام من تكريت والتنكيل بسكانها وكأنّه لا يكفيهما ما عانته المدينة من “داعش”. يبدو أن اللعنة تلاحق تكريت لإرتباط اسمها بصدّام حسين. هل يعتبر ذلك سببا كافيا كي تستمرّ عملية الإنتقام من المدينة والمنطقة المحيطة بها إلى أبد الآبدين؟
يبقى أنّ غزوة تكريت كشفت كم ادارة أوباما هزيلة. تساعد الغارات الجوّية الأميركية في دعم “الحشد الشعبي” الذي لا هدف له سوى تهجير السنّة العرب من بغداد ومن مناطق أخرى، من بينها محافظة صلاح الدين. بات السنّة العرب في العراق ضحية “داعش” و”الحشد الشعبي” في الوقت ذاته. هذا واقع لا يمكن تجاهله. لكنّ ما يثير التساؤلات كيف يمكن للإدارة الأميركية أن تقدّم الدعم لميليشيات مذهبية عراقية معروفة بارتباطاتها من دون الحصول على ضمانات مسبقة، أقلّه لجهة حماية المدنيين في مدينة مثل تكريت؟
هل هذا جزء من الثمن التي تدفعه ادارة أوباما لطهران في مقابل الموافقة على ما أسماه الرئيس الأميركي “الإطار العام لمنع ايران من امتلاك السلاح النووي”؟ إنّه بالفعل ثمن لاأخلاقي لا يشبه سوى الثمن الذي دفعه بوش الإبن من أجل أن تتواطأ معه ايران في غزوة العراق قبل إثني عشر عاما…