الحرب، كما يصفها الفيلسوف الإغريقي هرقليطس، هي أمُّ جميع الأشياء، “فهي تجعل من بعضهم آلهة، ومن آخرين عبيدا أو رجالا أحرارا”.
هذا التوصيف عن “حروب الفروسية” يتناقض مع حروب عالم اليوم الذي تسوده الفوضى الإستراتيجية بعد نهاية حقبة الأحادية الأميركية وعدم بروز بديل لها، إذ أصبحت الجماعات الإرهابية والجماعات المتمردة والشبكات المتنوعة متواجدة، حكما، في قلب المشهد الجيوسياسي في أكثر من مكان في العالم.
ولذا تحتل مسألة صناعة الإرهاب المتطرف واستخدامه من قبل القوى الفاعلة حيزا كبيرا في الصراعات الدائرة، وسيكون لها دور تقريري في رسم التوازنات العالمية المستقبلية.
والملفت أن صراعات القوى الكبرى والإقليمية تسهم في تفاقم ظاهرة الإرهاب وتمددها، وهذا بسبب عدم استيعاب مبدأ هرقليطس الآخر وهو: “كل شيء في حركة مستمرة وتغيّر”. خلال الحرب الباردة كانت الدعاية والدعاية المضادة من وسائلها.
مقابل تركيز الغرب على “حقوق الإنسان” والستار الحديدي، كانت موسكو ترفع راية “تحرر الشعوب”، وما بين الشعارات كانت الممارسات لا صلة لها باعتبارات مبدئية وأخلاقية، والأمثلة كثيرة عند كل الأطراف وحينها كان لكل جانب أساليبه في الحروب السرية وكان الإرهاب “رسميا” تحت رعاية الدول، والأيديولوجية هي الغطاء. وسمحت هذه الصراعات المتنوعة حول العالم بتفادي المواجهة المباشرة.
بدأت مرحلة جديدة في العلاقات الدولية مع حرب أفغانستان وكذلك مع الثورة الإيرانية أواخر السبعينات من القرن الماضي، وهكذا لأول مرة في عالمنا المعاصر يبدأ الاستخدام السياسي للإسلام سواء تحت راية “الجهاد ضد السوفياتي المحتل والملحد”، أو لمواجهة “الاستكبار العالمي” تحت القيادة الخمينية.
ولم يكن من قبيل الصدفة أن يكون بروز عامل الإسلام السياسي قد سبق انهيار الإمبراطورية السوفياتية بعد اثنتي عشرة سنة، واستمر مواكبا للتحولات اللاحقة.
وأصبح عالم ما بعد الحرب الباردة ليس فقط زمن الغلبة الأميركية، بل زمن بروز دول جديدة وحركات جديدة، من الألوية الحمراء الفارك في كولومبيا، إلى جماعات الدفاع عن البيئة أو الحركات القومية الانفصالية وعصابات التهريب والمافيات.
ولذا كان لكل واقع اجتماعي، أو لكل منطقة جغرافية حصتها من الفوضى والمناطق الرمادية وغياب القانون.
في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي بالإجمال، أدى الحدثان الأفغاني والإيراني، بالإضافة إلى الفشل الأيديـولوجي اليساري والقومي، وبهتان الوهج الفلسطيني بعد ترك بيروت في العام 1982، إلى طغيـان الخطاب الإسلامي السياسي والمقاتل.
انطلاقا من شعار “الجهاد ضد العدو البعيد للوصول إلى العدو القريب” أرسى عبدالله عزام، مؤسس الجهاد الأفغاني، قاعدة الانطلاق نحو الجهاد الكوني، وكان لقرار “تصدير الثورة الإسلامية الإيرانية” الإسهام الآخر في نشر الجهاد بصيغته الأخرى التي تجعله تحت إمرة الولي الفقيه وقراره.
جرى تحضير المسرح جيدا لنشأة التطرف وتمدده، إذ أن المختبر الأفغاني أفرز تنظيم القاعدة بعد حرب الخليج الثانية، والحرس الثوري الإيراني، الذي أسس حزب الله في لبنان وتنظيمات عراقية ودعم غيرها، كان ينفذ قرار تمدد الأذرع الإيرانية في الإقليم.
بعد هذه الصناعة التي لم تكن ترجمة لنظريات فقهية عند السنة أو الشيعة فحسب، بل أيضا نتاج إسهام أميركي- غربي مباشر أو غير مباشر في البدايات الأفغانية، أو خلاصة لترك الاحتقان المذهبي يتصاعد بعد حرب العراق في 2003 وانعكاساته على صعود التطرف عند الجانبين.
لم يأت هذا الإقحام للإسلام والعامل الديني من فراغ، بل جاء على الأرجح من قراءة إستراتيجية أميركية حول ضرورة صناعة العدو الملائم، لكي تستمر واشنطن، طويلا، في التحكم بالقرار العالمي.
وهكذا بعد “العدو الأحمر” المهزوم لماذا لا يكون “الخطر الأخضر” هو الهاجس نظـرا للموقع الجغرافي لعـوالـم الإسـلام من الشـرق الأوسـط إلى الجمهـوريات السوفياتية السابقة وامتـلاكها لمصادر الطاقة وطرق البترول والغاز ولزخم ديمغرافي. ولذا ليس من المستبعد أن تكون حرب أفغانستان في 2001 والعراق في 2003، ليس فقط للرد على اعتداءات 11 سبتمبر، بل لشن ما يسمّى الحرب الكبرى ضد الإرهاب وصياغة العالم حسب مفاهيم ورغبات واشنطن انطلاقا من الانتصارات التي كان يُعوّل عليها.
خرج التطرف من القمقم لأنه منذ بدايات القرن الحادي والعشرين ارتسم مشهد إقليمي ملتبس في الشرق الأوسط وتصادمت المشاريع المتناقضة لإعادة تركيب المنطقة (أميركي وإيراني وتركي وإسرائيلي).
أمام زحمة المشاريع لم يكن هناك مشروع عربي، ولم تنجح التحولات منذ 2011 في بلورة مشروع جديد، ولذا أصبحت بلاد الشام والعراق ومصر واليمن وليبيا مسارح النزاعات والإرهاب.
أدى تفاقم الوضع في العراق وسوريا إلى إغراق المنطقة بجماعات “الجهاديين” من كل حدب وصوب، وخرجت الأمور عن سيطرة المقررين في اللعبة الدموية، ووصل التغول مع المشروع الإمبراطوري الإيراني وبروز توحش “تنظيم الدولة الإسلامية” إلى حده الأقصى.
منذ صيف 2014، عادت واشنطن عسكريا إلى العراق تحـت يافطـة التحالف الدولي ضد الإرهاب، وها هو الحنين إلى الخلافة بشكله الخرافي يعود، وها هو أبوبكر شيكاوا النيجيري من بوكو حرام يبايع الخليفة أبا بكر البغدادي، ويصبح تنظيم “داعش” وأخواته هاجسا يؤرق صناع القرار العالمي عبـر سعيه إلى الامتـداد في» قوس إرهابي من وزيرستان إلى خليج غينيا» على حد تعبير وزير الدفاع الفرنسي إيف لودريان.
إذا سلمنا بأن تنظيم الدولة الإسلامية يعدّ التتويج الدرامي لمسار الحركات الجهادية المتطرفة منذ التسعينات إلى حد اليوم، مع الأخذ بعين الاعتبار دور القوى الخارجية وأنظمة الاستبداد في صناعته، أما التمويل وآلياته والاستثمار في الإرهاب، فهذه حكاية معقّدة فيها أكثر من شريك. إلا أن الاستخدام هو الأهم لناحية الفعل السياسي.
أي مراقبة دقيقة للمشهدين الميدانيْين في سـوريا والعـراق، تـدل على أن تنظيم “داعش” يخـدم إستراتيجية التمدد الإيراني، بشكل مقصود أو غيـر مقصود، كمـا أن الحرب ضده تسمح لواشنطن بالاستمرار في قيادة شؤون وشجون اللعبة المستمرة فصولا.
جرى كثيرا الحديث عن حروب النفط والغاز والمياه، ويضاف إليها اليوم الحرب ضد الإرهاب وكلها أيضا وسائل مفترضة ضمن خطط ومناهج اللاعبين الإقليميين والدوليين في سعيهم لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية.
لا يمكن إذن ضرب التطرف والإرهاب عبر الأساليب الكلاسيكية القديمة أو عبر صراعات النفوذ. بالطبع يتوجب العودة إلى الجذور وخوض مواجهات ثقافية وأيديولوجية وعمليات بناء تنموي وإيجاد حلول عادلة للمشاكل المزمنة. وفي مـوازاة ذلك من دون توافق وشراكات إقليمية ودولية سيستمر استخدام الإرهاب لغايات في نفس يعقوب وغير يعقوب.
أستاذ العلوم السياسية المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس
khattarwahid@yahoo.fr