في جميع المناقشات حول عدم دعم تركيا بشكل خاص للتحالف الدولي لمكافحة تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش») أو «الدولة الإسلامية»، لم يتم التطرق كثيراً إلى الدور الذي يؤديه الجيش في تشكيل سياسة الحكومة. ويعكس هذا الأمر في جزء منه تحجيم «حزب العدالة والتنمية» لدور الجيش في صياغة السياسات منذ عام 2002، وسيطرة “جهاز الاستخبارات الوطنية” على تنفيذ السياسة المتعلقة بسوريا. ولكن تبرز أسباب أخرى لتردد الجيش في مكافحة تنظيم «الدولة الإسلامية»، بعضها كان قائماً منذ عقود وهو متأصل بعمق أكثر من السخط الذي برز مؤخراً جراء تجريد السياسة من القيادة العسكرية. يُذكر أن هذه الآراء شائعة أيضاً في صفوف الطبقة الناشطة سياسياً خارج نطاق النخب الحاكمة من «حزب العدالة والتنمية».
سقوط «ايرجينيكون»
في عام 2007، أطلق «حزب العدالة والتنمية» مجموعة من المحاكمات ضد الجيش، الذي عيّن نفسه بطل السياسة العلمانية في تركيا. ومن خلال استخدامها مناورة عسكرية حربية من عام 2003 كدليل، أكدت النيابة العامة وقوات الشرطة التابعة للحكومة أن الجيش وحلفاءه العلمانيين كانوا قد خططوا لانقلاب عدواني يهدف إلى تقويض الحكم المدني. وعلى الرغم من أن النيابة العامة لم تتمكن من تقديم تفسير كامل ومقنع حول المؤامرة المزعومة في القضيتين المرفوعتين في المحاكم واللتين أُطلق عليهما اسم «المطرقة الثقيلة» و«ايرجينيكون»، إلا أن الحكومة سجنت عدداً كبيراً من شخصيات المعارضة العلمانية ومئات من ضباط الجيش بين عامي 2007 و2010، بمن فيهم ربع جنرالات البلاد. وفي آب/ أغسطس 2011، استقال كبار ضباط الجيش بشكل جماعي، في إشارة إلى إذعان ضمني لتفوق «حزب العدالة والتنمية».
ومنذ ذلك الحين أطلقت الحكومة سراح جميع المشتبه بهم تقريباً في قضية «ايرجينيكون» في محاولة لاسترضاء القوات المسلحة، إلا أن القادة العسكريين استمروا في اتخاذ موقف ساخط يكاد يصل إلى العدوانية السلبية تجاه صانعي السياسة، رافضين في الواقع تقديم مشورتهم حول العديد من القضايا العسكرية. ويعكس ذلك قناعة الجنرالات بأن مجرد تحليل السيناريوهات العسكرية والتخطيط لها يمكن أن يؤدي إلى السجن. وبغض النظر عن صحة مزاعم التآمر لإحداث انقلاب منذ عام 2002، لا يزال العديد من كبار الضباط مقتنعين بأن زملائهم أُدينوا بتهم ملفقة لمجرد تأدية عملهم القائم على وضع خطط للدفاع عن الأمة من الأعداء المحليين والأجانب.
الضغينة طويلة الأمد تجاه القومية الكردية
يشعر القادة العسكريون أيضاً بالاستياء من استبعادهم من عملية صناعة القرار السياسي في الحكومة لتحقيق السلام مع «حزب العمال الكردستاني»، الذي قتل محاربوه الآلاف من العسكريين على مدى العقود الثلاثة الماضية. وفي عام 2011، دخل رئيس الوزراء في ذلك الحين، رجب طيب أردوغان، في محادثات سلام مع الحزب، التي لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا. وفي هذا الإطار، يبدو الآن أن الرئيس أردوغان يعتقد أن إجراء محادثات ناجحة مع «حزب العمال الكردستاني» وتحسين العلاقات مع «حكومة إقليم كردستان» في العراق يمكن أن يساعدا في جعل الأكراد حليفاً إقليمياً هاماً. كما أن المحادثات المستمرة من شأنها أن تدعم الاستقرار الداخلي، مما يمهد الطريق لفوز «حزب العدالة والتنمية» في انتخابات برلمانية أخرى في حزيران/يونيو.
أما من الجانب العسكري، فإن معاداة المقاتلين الأكراد – وبالتالي المجتمع القومي الكردي من حيث يجند «حزب العمال الكردستاني» مقاتليه ويحصل على الدعم المادي والمعنوي – تعود إلى ما هو أبعد بكثير من جهود السلام الأخيرة التي يبذلها «حزب العدالة والتنمية». فقبل وقت طويل من تاريخ حمل «حزب العمال الكردستاني» السلاح ضد الدولة قبل أربعة عقود، تعاملت الحكومات التركية المدعومة من قبل الجيش مع الأكراد على أنهم شعب خاضع، ورفضت الاعتراف بهم كمجتمع مستقل، ومنعت استخدام لغتهم، وأنكرت تاريخهم في النظام التعليمي، وقد أتى كل ذلك كجزء لا يتجزأ من أيديولوجية الجيش القومية العلمانية. وعلى الرغم من أن تركيا قد شهدت تحسناً كبيراً في الحقوق الممنوحة للأكراد على مدى العقد الماضي، بما في ذلك إنشاء شبكة تلفزيونية باللغة الكردية تبث على مدار الساعة ويتم تمويلها من القطاع العام، لا يزال العديد من الأتراك عديمي الثقة بالقومية الكردية. والملاحظ أن هذا الموقف سائد بشكل خاص في المؤسسة العسكرية وشبكات الدعم المدنية الواسعة التابعة لها. وبالتالي، فإن مثل هذه المشاعر تجعل الجيش غير متعاطف مع الدعوات لمساعدة الجماعات الكردية التابعة لـ «حزب العمال الكردستاني» والتي تقاتل تنظيم «داعش» في شمال سوريا.
عدم الرغبة في مساعدة العرب
لا تزال مشاعر الحقد قائمة بين الأتراك والعرب. في حين يتحدث الرئيس أردوغان ورئيس الوزراء أحمد داود أوغلو عن الانسجام الطبيعي بين جميع المسلمين السنة في المنطقة، إلا أن نصف ألفية من الهيمنة الامبريالية العثمانية خلقت مشاعر عميقة من عدم الثقة بين السنة من الأتراك والعرب. فالعديد من الأتراك، لا سيما أولئك الذين يتمتعون بصلات عسكرية، يرجعون بالذاكرة إلى القرن الماضي ويرون سلسلة من الخيانات من قبل العرب المدعومين من الغرب – على سبيل المثال، تمردت النخب العربية المتحالفة مع البريطانيين خلال الحرب العالمية الأولى على اسطنبول. وكما قال أحد العلمانيين الأتراك من خريجي الجامعات للمؤلف في عام 2012 بعد أن أودى القصف السوري المخطئ بحياة خمسة مواطنين أتراك في بلدة أقجة قلعة الحدودية التي غالبيتها من العرب، “إنهم ليسوا أتراكاً، إنهم عرب. ماذا يعني الأمر لنا؟” وعلى الرغم من أن تركيا ردت على ذلك الهجوم عسكرياً، إلا أن عملية الانتقام كانت محدودة، كما أن المشاعر المعادية للعرب تجعل على الأرجح بعض ضباط الجيش يميلون إلى مقاومة الانضمام إلى حملة أوسع لمكافحة تنظيم «الدولة الإسلامية».
المخاوف العسكرية
إن رغبة الجيش التركي في الالتزامات الخارجية بناءً على تعليمات حكومته أو تعليمات الولايات المتحدة/ حلف شمال الأطلسي (“الناتو”) غالباً ما تشوبها الأخطاء. فهو عبارة عن منظمة محافظة تذكر جيداً الاستياء الشعبي من الخسائر الفادحة التي وقعت في صفوف القوات التركية في الحرب الكورية، الأمر الذي أدى إلى تجنب تأدية دور قتالي في أفغانستان. كما أن الجنرالات يشعرون بالقلق من أن محاربة «داعش» أو القوات السورية يمكن أن تكشف عن نقاط الضعف الفنية والتكتيكية للجيش، مما يحتمل أن يضر بشعبيتهم التي لا يتحملون خسارتها مع استمرار نضالهم السياسي ضد أردوغان. كما أن إسقاط سوريا لطائرة مقاتلة تركية في حزيران/ يونيو 2012 شكل مثالاً عاماً مؤلماً عن هذه المخاوف.
المحصلة
في حين أن قرار تركيا الداعم لمحاربة «داعش» عسكرياً أو المعارض له سيكون قراراً سياسياً، لا ينبغي لأحد التقليل من مدى صعوبة عملية إقناع القيادة العسكرية بأنه ينبغي لها أن تضع الأتراك في خطر عبر إرسالهم للقتال سواء إلى جانب الأكراد في كوباني (عين العرب) أو لحماية العرب السوريين في منطقة آمنة.
إد ستافورد هو ضابط في الخدمة الخارجية يدرس حالياً في “كلية الدفاع للبلدان الأمريكية”. وبين عامي 2011 و 2014، شغل منصب رئيس القسم السياسي والعسكري في السفارة الأمريكية في أنقرة. الآراء الواردة في هذه المقالة تخص الكاتب ولا تعكس بالضرورة موقف “كلية الدفاع للبلدان الأمريكية” أو وزارة الخارجية أو الحكومة الأمريكيتين.